كتاب " الإيمان " ، تأليف د. إبراهيم كوكباني ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الإيمان
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الإيمان
مقدِّمة
صفحة من تاريخنا الروحاني
عن الإيمان يكتُب، وليس للكتابة عن الإيمان شكلٌ مهيَّأٌ أو معلَّب.
في الإيمان يكتب، وليس للكتابة في الإيمان أسلوبٌ مُسبَق.
اختار أن يسرُد. روائياً يسرّد. قصصياً يسرّد. وليس في سرده خطٌّ اتّباعيَ، كأنما من نسيج الإيمان الإبداعُ الدائم، لا الإتّباع الهائم.
وليس من حرَجٍ في هَيَمانه على فضاء السرد، فليس التشدّد في الأصول ما ينقصه، هو الآتي إلى هنا من صميم الأكاديمية ومن قلْب العلم، هو العارف بدقائق العلْم، هو الغائصُ على قراءة الآثار الدارسة والمستَخلصُ أصداء الأمس ساكبَها في أصوات اليوم. إبراهيم كوكباني: عالمٌ جاء إلى الأدب. فلْيهْنأُ به الأدب، ولا يُحاسبنّه على شكل أو أُسلوب أو إطار. حسبه أنه يكتب مؤمناً، وينسج نصّه (الروائي غير البعيد عن الخيال ولا البعيد عن الواقع) مؤمناً ينصاع للأعجوبة، وليس أمام الأعاجيب اعتراضٌ على شكلانية الأعجوبة.
منذ الاستهلال مع أغسطينُس "المعترف"، حتى الختام مع إيمان آمال "المعترف" بالشفاء، مسحةٌ إيمانيّة هي التي، بل وحدها التي، حين تَحضر، يَحضر معها صوتُ الذي هدَر فينا ذات يوم: "من كان منكم على إيمان بحجم حبة خردل، يقول للجبل: "انتقِل" فينتقِل".
إنها علاقة الإنسان بالربّ. علاقة المخلوق بالخالق.
في قصيدة "الطرح" قال إلياس أبو شبكة:
"إنّ في الحبّ صورةَ الله، لكنْ
أين في الخلْق صورةُ الخلاّق"؟
هكذا نحن هنا: في قلب الحب. إذاً في قلب الله.
وليست خيالات أبو حلمي ووردة والخوري يوسف وجميل ومخول (في القصة) إلا ركائز من الخيال الروائي (على بعض واقعيّتها) بلوغاً إلى المقولة التي ستنطبق على آمال: "من آمن بالحجر يبرأ".
وحول هذا النسج القصصي، مرّر الكاتب نَفَسَه الإيماني بتجرُّد عن كل ما هو مادي، وعلاقة الإنسان بربه، وعلاقة الإنسان بالحجر (فنّ النحت: منحوتاتٍ وتماثيلَ وأنصاباً)، ومرّر لمحات من حياة النسّاك والقديسين ومقاومتهم العذابَ وإصرارهم على التوحُّد بالمسيح إلههم، تعريجاً على أوديسَّة الهجرة اللبنانية: صُغراها (النّزوح إلى المدينة) وكُبراها (السَّفر إلى ما وراء البحر، والعودة بالشغف من المغتّرَب البعيد، كعودة أبي حلمي من نيويورك بعد غيابه فيها عشرين عاماً)، ومرّر عاداتٍ وتقاليدَ من الضيعة اللبنانية (الحب الخَفَر، الزواج المحرم، الخطيفة، غضب الأهل، مقاطعتهم الزوجين، ثم الرضا)، ومرّر مناخ دير ما أنطونيوس قزحيا في ذاك الوادي الرهيب التُّقى: وادي قنَُّوبين، وادي قاديشا، وادي القديسين الذي قضى جبران طوال حياته في نيويورك عشرين عاماً يحلم بالعودة إليه كي تَهْنأ برؤيته عيناه لكنه عاد إليه إنما... مُطْفأَ النور في العينين.
جميع هذه الملامح تمرّ في هذه القصة الهانئة البسيطة السلسة، شهق بها قلم إبراهيم كوكباني كأنما لا للقصة بل لخلفيتها، كأنما لا لشخصياتها بل لمغزاها، كأنما لا للسرد بل لبلوغ أنْ "آمِن بالحجر تبرأْ". هكذا كانت زيارة آمال (بِجنينها) مع خالتها مريم (بإيمانها) إلى دير مار أنطونيوس قزحيا، واقتبال آمال السلسال الحديدي الهائل مُحْكماً حول رقبتها وفي أطرافها، ثم انفكاكه عنها عند الصباح، واستفاقتها من حلمٍ رافقها فيه ملاك باللباس الأبيض أَخرجَ منها الأرواح الشريرة، وشفاها من حالتها المرضية الوسواسيّة المستعصية التي عجز عنها الطب، ولم يكن ممكناً شفاؤُها منها إلا بالأعجوبة (بوَحدها الأعجوبة التي تتخطّى الطب وتتجاوز كل منطق علمي)، ثم إتمام آمال أشهُر حَمْلها ووضْعها طفلها البكر وتسميته أنطونيوس على اسم القديس الذي شفاها، ... كل ذلك تدَرُّجٌ سَلْسَلَهُ إبراهيم كوكباني بدقّة التفصيل وتَمامية الإيمان الطقسي، حتى بلغ ما أراد أن يرمي إليه: "آمن بالحجر تَبْرَأْ".
***
لن أُفسد عليك اكتشاف تفاصيل القصة.
حسبي منها أنها هزّت فيَّ مشاعر الإيمان.
وحسبك منها أنّها ستهزُّ فيك مشاعر التلقّي، من صاحب قلمٍ اعتدناه عالماً جلوداً وبَحَّاثةً ومُنَقِّباً ثقةً في آثارنا أطلّعَها لنا حيَّةً نابضةً بصفحاتٍ مشرقاتٍ من تاريخنا البهيّ، وها هو اليوم يُطلعُ لنا، على طريقته غير المدّعية القَصَّ ولا الأسلوبَ الروائي، صفحةً مشرقةً أخرى من تاريخنا الروحانيّ البهيّ، كرمليةَ الرؤية، سوسنيَّة البهاء، عذراويةَ المدى، على دعوة عميقة إلى إيمان لا يليقُ به إلاّ نَفَسُ التقوى في خَشْعَة صلاةٍ داخل كنيسةٍ حافيةِ السكُوت، تصلّي فيها إلى العذراء جميلةُ قلبٍ وروحٍ، غيرَ مدركةٍ أنها بعذراويَّتها وُلِدّت بدَوْرها عذراءَ تُلهم قلماً يكتب بالإيمان حُبّاً لا تفيه الكلمات.
فلتتبارك ريشهٌ مغطوطةٌ بزيت الإيمان.
ولتتبارك بها أعجوبةٌ فكّكَت قيدّ السلاسل إلى وَسَاعة الفرح.
إبراهيم كوكباني، شًكراً لك مرتين: أوُلى لأنكَ كتبتَ، والأُخرى لأنكَ حَبَّبْتَنا أكثر في ما هو الإيمان.
هنري زغيب