كتاب " مشاهدات في السينما العالمية " ، تأليف جاسم المطير ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2010 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب مشاهدات في السينما العالمية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
مشاهدات في السينما العالمية
إنغمار برغمان صانع الثريا المضيئة لسينما القرن الحادي والعشرين..
لم يكن من قبيل المجاملة أن يصف بعضهم المخرج السويدي إنغمار برغمان بعد رحيله بأنه من عباقرة السينما، ولم يكن تباعداً عن الواقع حين وصفه بعضهم بأنه شاعر السينما العالمية، ولم يكن مفارقة أن بعضهم وصف سيرته السينمائية الذاتية بأنها مراجعة للفلسفة الإنسانية، أو أنها مراجعة للتاريخ الإنساني في بعض جوانبه، أو أنها ببساطة كانت من المحاولات الفنية الجادة لكشف معاناة الإنسان المعاصر وكشف آماله وطموحاته.
بصورة عامة تناولته الصحف العالمية الكبرى بنوع من التأبين الجدير والمكين بعد رحيله بطريقة لا تتناول قصة حياته الكاملة وحسب، بل أيضاً في استغلال مناسبة الوفاة لإضاءة الحجج الفنية والمنجزات الإبداعية التي أوجدت علاقة راسخة بينه وبين السينما لم تكن علاقة عادية بل كانت قوية إلى درجة أكدها النقاد باعتبارها أصبحت مصدراً من المصادر الأساسية في تطور السينما العالمية في القرن العشرين. حتى أن أحد الكتاب قال: «برحيل المخرج السينمائي السويدي أو الأحرى، فنان السينما الكبير إنغمار برغمان عن عالمنا، يُغلق كتاب كامل في تاريخ الفن السينمائي، بل وفي تاريخ الثقافة والفكر والإبداع..».
سينما برغمان هي سينما الفكر والخيال والفلسفة الإنسانية عندما تتعامل مع وسيط يختلف عن الكلمة المكتوبة، وليس غريباً أن يقال إن برغمان فنان «الكتابة بالضوء». بصورة عامة يمكن القول إن أفلام برغمان لا تشبه غيرها من الأفلام، ليس فقط فيما تعالجه وتطرحه من تأملات فلسفية، بل أساساً في الأسلوب السينمائي المتميز الذي اعتبر بمثابة سباحة كاملة ضد التيار، ضد تيار الفيلم الأميركي، الفيلم الذي يبرر ويمنطق ويشرح العالم ويحل كل المشاكل دفعة واحدة من خلال تلك «النهاية السعيدة» التي يعرفها المشاهدون جميعاً ويسعدون بها.
كثيرون من معاصري برغمان من النقاد السينمائيين والصحفيين أكدوا حقيقة مشتركة مفادها أن برغمان تناول في أفلامه تعقيدات الحياة الإنسانية:
ــــــ مغزى الحياة ومعنى الموت وهل يمكن هزيمته.
ــــــ وجود اللَّه، ورسالة الإنسان، وما يدور تحت الجلد الخارجي للإنسان من تناقضات وتمزقات وتساؤلات عميقة عن الكون والخليقة.
ــــــ قسوة البشر ووجود ظاهرة استغلال الإنسان الأقوى للإنسان الأضعف.
ــــــ المرأة ككائن أكثر حساسية في علاقتها المعقدة بالرجل.
لا شك أن لنشأة برغمان في بلدة نائية (في جزيرة فارو) في السويد، حيث الوحدة والعزلة والوحشة وقسوة العلاقات، مع تمزق العلاقة مبكراً بين والده ووالدته، قد ترك تأثيراً كبيراً على فلسفته ورؤيته وأفكاره كما ظهرت في أفلامه.
لكن لا شك أيضاً أن برغمان، ابن المسرح السويدي وأحد أقطابه الكبار، جاء إلى السينما مسلحاً بهموم وهواجس فكرية عن عالم الرأسمالية المعاصرة «كمفكر سينمائي» يبحث عن إجابات لعشرات الأسئلة الحائرة في داخله.
ولد إنغمار برغمان في 14 حزيران/يونيو 1918، لم يعش حياة صاخبة مثل الكثير من الفنانين وربما صفته الرئيسية في الهدوء والمجاملة والإصغاء إلى «صوت الآخر» قد انتقلت إليه من والده الذي كان قساً. ارتبطت طفولته بالبيانو لكن شبابه ارتبط بالمسرح حينما دخل كلية الآداب كي يدرس تجربة وأفكار أوغست ستدندبرغ إذ كانت هذه الشخصية موضوع أطروحته الجامعية. لم يكن ستدندبرغ كاتباً مسرحياً تقليدياً، بل كان فيلسوفاً وجودياً شغله (الوجود بكليته والعدم بغموضه) مما أدى إلى ظهور هذه الأفكار الرئيسية في مضامين أغلب الأعمال المجيدة من أفلامه فيما بعد.
في البداية، أي بعد تخرجه من الكلية اتجه نحو التأليف المسرحي ثم الإخراج، لكن السينما سرعان ما جذبته إلى ميدانها الواسع الفسيح وإلى جمهور المشاهدين السينمائيين وهو الجمهور الأكبر. ولأنه كان يؤمن بأن السينما كفن وكأداة ثقافية ستكون علامة بارزة من علامات القرن العشرين، بدأ اهتمامه الأساسي بها منذ ثلاثينيات القرن الماضي غير أنه صار ذا شأن سينمائي عام 1944 حين كتب معالجة سينمائية لفيلم «العذاب» ثم راح يخرج بحماس شديد فيلم «أزمة» عام 1946 ثم «إنها تمطر عليَّ حباً» عام 1949، وفيلم «فجر السعادة» عام 1949 وبذلك أصبح متعلقاً بالعالم السينمائي تعلقاً كبيراً وباهراً وكان يبذل الجهود الكبرى والمتواصلة لاستخدام التكنيك السينمائي الراقي في أعماله كافة والتي مات وهو يعتقد أنها ستكون مثيرة ومفيدة لفناني سينما المستقبل.
في ستينيات القرن الماضي انتبه النقاد وجمهور السينما لما يقوله برغمان، الذي اتجه نحو تناول الموضوعات الخاصة بالفرد وأعماقه ومعاناته الداخلية مما جعل العديد من أفلامه الأولى تبدو مبهمة وغامضة. الكثير من النقاد ومن متابعي أعماله ظنوا أن الإبهام والغموض في أفلامه هما تعبير عن أفعال درامية ضعيفة، بينما راح آخرون يقدمون تفسيرات أخرى لهذا الغموض باعتباره تعبيراً عن القلق الوجودي المحيط انغمار برغمان نفسه بسبب نتائج أفعال الرأسمالية العالمية واستغلال الإنسان المعاصر إلى أقصى حد وبسبب حروبها الكونية وبسبب أفعال الفاشية والنازية التي ألحقت عذابات كثيرة بالإنسانية جمعاء، ربما كان فيلمه المهم «بيضة الأفعى» يعبر عن كل هذا.
نعم.. إن برغمان نفسه يعترف بصورة غير مباشرة بالغموض في بعض أفلامه الأولى حيث يشير بقوله: «الفيلم عندي يبدأ من شيء ما قد يكون ضبابياً، كأي ملاحظة عابرة، أو أي شيء ضبابي جميل يرتبط بحالة معينة، كأن يكون موسيقى، أو حزمة ضوء تسقط على قارعة الطريق، وعلى هذا فإن السيناريو هو الأساس التكتيكي غير المتكامل للفيلم.. والسينما على هذا لا تجمعها أية رابطة بالأدب، وذلك لأن خصائص ووظيفة السينما والأدب تقعان في تناقض مستمر».
منذ ستينيات القرن الماضي حتى يومنا الراهن، وأفلام برغمان شغلها الشاغل الإنسان وعلاقته بالآخر، ولأن الأسرة هي أصغر وحدة في المجتمع، وبالتالي في الوجود الكوني، فقد كانت أفلام برغمان بحثاً واستقصاءً عن علاقة الرجل بالمرأة، وهذه العلاقة ليست حسية بالضرورة، بل هي علاقة امتلاء وجودي مشحون بالحب والكره والتفاؤل والفرح.
رحل انغمار برغمان عن منصة السينما العالمية الأولى تاركاً موروثاً غزيراً في تجارب السيناريو، والإخراج والتمثيل، وغير ذلك من الفنون المرتبطة بالسينما تتجسد بتجارب نحو 50 فيلماً روائياً طويلاً للسينما ربما يمكن اعتبار أكثرها أهمية: «الختم السابع» (1957)، و«الفراولة البرية» (1957)، وثلاثيته الشهيرة «من خلال زجاج معتم» (1961)، و«ضوء الشتاء» (1962)، و«الصمت» (1963)، ثم «برسونا» أو «القناع» (1966)، ثم فيلمه الملّون الأول «صرخات وهمسات» (1972).
من يدري ربما تكون نبوءته بأنه كان يعمل لسينما المستقبل ستظهر نتائجها في سينما القرن الحادي والعشرين وربما تكون «ثريا» تجاربه لازمة لا غنى عنها في تطور سينما العصر القادم.
لاهاي 10/8/2007