كتاب " نهاية العالم على مذبح التغير المناخي " ، تأليف د. أيوب أبو دية ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب نهاية العالم على مذبح التغير المناخي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
نهاية العالم على مذبح التغير المناخي
هناك دلائل قوية على أن البرودة الشديدة قد دفعت قبائل الهنّ، وبعض القبائل الجرمانية وقبائل الفرنج، إلى النزوح من شمال أوروبا صوب الجنوب الشرقي باتجاه نهر الفولغا، وكذلك استمروا زحفاً لجهة الجنوب باتجاه نهر الراين صوب الإمبراطورية الرومانية، الأمر الذي أدى إلى انهيارها في القرن الخامس للميلاد ودخول أوروبا في العصور الوسطى الحالكة الظلمة، في حين كانت الحضارة العربية الإسلامية تشق طريقها صوب الشمال الغربي في القرن السابع الميلادي.
وبالرغم من هيمنة الطقس الدافئ على أوروبا منذ مطلع القرن التاسع للميلاد، فلم تمنع فترة الدفء المناخي تعرض الأرض إلى فترات صقيع وبروده متدنية جداً في أوروبا وخارجها، ودليل ذلك تجمد نهر النيل عام 829 ميلادي بعد انقضاء فترة برودة سادت طوال القرن الثامن تقريباً(13).
من المعروف أن عصب الحياة في مصر الزراعية هو فيضان نهر النيل، إذ تشير الإحصاءَات التاريخية إلى انحسار منسوب المياه في الفترة الواقعة بين 930-1070، حيث مات نحو ربع سكان مصر إثر مجاعة عام 967؛ ثم ما لبث أن ارتفع منسوب المياه خلال الأعوام 1070-1180، تلاه انخفاض ملحوظ بعد ذلك بين الأعوام 1180 - 1350. وقد أدى هذا التذبذب إلى هجرات مناخية وتحولات اجتماعية أسهمت في صياغة تاريخ العالم القديم(14).
أما في نصف الكرة الشمالي، فقد أدى ارتفاع درجة الحرارة في أوروبا نحو مطلع القرن التاسع للميلاد إلى زيادة النشاط الزراعي وتطور التقنيات الزراعة (المحراث ومعدات الفلاحة) نتيجة جفاف المستنقعات واستصلاح الأراضي للزراعة. ومع مطلع القرن العاشر بدأ العالم يشهد ارتفاعاً ملحوظاً في درجة الحرارة، وشرع الثلج يذوب في المضيق الذي يفصل النرويج عن آيسلندا، فانطلق الاستيطان في آيسلندا نحو ذلك التاريخ خلال فترة الدفء المناخي.
ونتيجة وفرة الإنتاج الزراعي ازداد عدد سكان أوروبا بسرعة كبيرة، حيث ظهرت نحو 1500 مدينة جديدة في وسط أوروبا بين عامي 1000 – 1250 للميلاد، الأمر الذي استنزف الطبيعة وساهم في تراجع مساحة الغابات على نحو غير مسبوق في التاريخ، وذلك لاستخدامها في التعدين والفحم الحجري والصناعات الحديدية لصناعة الأسلحة وصناعة المحاريث والأدوات الأخرى، فضلاً عن استخدام الأخشاب للتدفئة وفي بناء السفن والعربات والمنازل والقصور الأرستقراطية والكاثدرائيات العظيمة تمجيداً لله وشكراً له على الغلال الوفيرة التي تمتعت بها أوروبا في تلك الفترة؛ ولا يزال الكثير من هذه الأبنية قائماً حتى يومنا هذا، في بريطانيا وفرنسا وغيرها من دول شمال أوروبا(15).
يقدِّر العلماء اليوم أن نصف الغابات في أوروبا في ذلك العصر قد تمت إزالتها لأغراض الزراعة والرعي والتعدين والبناء والتدفئة والتصنيع وغيرها. وبالرغم من ذلك فإن التلوث لم يكن شديداً في تلك الفترة على النحو الذي هو عليه اليوم، فدخلت الأرض عصراً جليدياً بعد انحسار فترة الدفء المناخي مباشرة، على الأرجح بفعل ضعف النشاطات الشمسية آنذاك أو نتيجة ابتعاد الأرض عن الشمس في مدارها البيضاوي حول الشمس.
تشير الدلائل التاريخية إلى أن أوروبا كانت تتعرض لفترات برودة شديدة خلال فترة الدفء المناخي في العصور الوسطى، فعلى سبيل المثال، اشتدت البرودة في شتاء 1010 – 1011، وفي شتاء 1079، وذلك خلال فترة الدفء المناخي الواقعة بين 800 – 1300 التي تبعها العصر الجليدي المصغر(16).
كما عانت أوروبا من فترة برودة شديدة عام 1100، وتعرضت لفيضانات شديدة بين عامي 1143 – 1145 أدت إلى مجاعات عظيمة تركت آثاراً كبيرة. وفي عام 1215 أصابها الجفاف، فاضطر الناس لأكل لحاء الشجر وبيع أولادهم كأرقاء. أما في عام 1322 فقد اشتدت الأعاصير على نحو أعاق حركة الملاحة في القارة بأسرها. وتتزامن هذه التغيرات المناخية مع حروب الفرنج في الشرق، حيث نزح الأوروبيون نتيجة الظروف الجوية القاسية والأحوال المعيشية المقيتة، وبالطبع أدت إلى اندلاع الحروب العنيفة مع العرب والمسلمين في الشرق(17).
تشير حلقات الشجر العتيق في منغوليا، والتي تعود إلى القرن الثالث عشر، أن منغوليا تعرضت لجفاف شديد في تلك الفترة حيث اضطر أهلها للهجوم على الصين في الشرق، ولاحتلال الشرق الأوسط وغزو أوروبا. وما أن تحسنت أحوال الطقس في منغوليا حتى عاد المغول إلى بلادهم، بالرغم من أنهم اجتاحوا أوروبا الشرقية وكادوا أن يصلوا إلى المحيط الأطلسي لولا أن اضطرتهم للعودة أحداث سياسية مهمة جرت في داخل منغوليا؛ فقد حققوا نجاحات باهرة ولم تواجههم أو تهدد وجودهم هناك أي قوة ذات قيمة(18).
تفاوت معدل درجة حرارة الأرض من عقد إلى آخر
ويلاحظ في الشكل الأخير تناوب البرودة والدفء منذ القرن السابع عشر للميلاد، وأيضاً يلاحظ التفاوت النسبي في معدلات درجة الحرارة خلال العقد الواحد، فضلاً عن ارتفاع الحرارة المضطرد في القرن العشرين.
نحو عام 1520 بدأ الدفء المناخي يسود العالم، واستمر لغاية عام 1640، ثم عادت الدورة مرة أخرى حيث بدأ البرد يشتد منذ عام 1640؛ وقد سجلت أرقاماً قياسية لتدني درجة الحرارة بين عامي 1680 – 1700؛ كذلك، كان العقد الواقع بين 1810 – 1820 بارداً جداً، ووصلت الموجة الباردة أوجها عام 1816 عندما لم يتمتع الأوروبيون بصيف ذلك العام فتم الانتقال من الربيع إلى الخريف من دون العبور بفصل الصيف، وهذه الأحداث واضحة تمام الوضوح في الشكل الأخير.
وهناك دلائل تشير إلى أن نهر التايمز في لندن كان يتجمد سنوياً في فترات متفاوتة، حيث كانت تقام “مهرجانات الجليد” فوقه. وتجمد نهر التايمز مرتبط بتدني معدل درجة الحرارة في العالم، كما يتضح من الشكل الأخير كذلك.
تجمد نهر التايمز في لندن عند جسر رتشموند Richmond Bridge
اللوحة الظاهرة في الصورة أعلاه تعود الى عام 1855، وتوضح تجمد نهر التايمز في لندن عند جسر رتشموند نحو منتصف القرن التاسع عشر، حيث كان الناس يمارسون رياضات متنوعة على الجليد. أما بعد أن تعمقت الثورة الصناعية فقد بدأت درجة الحرارة ترتفع ولم يبقَ من شاهد على تجمد نهر التايمز سوى ما هو مسجل في بطون الكتب أو ما يظهر في بعض اللوحات الفنية لذلك العصر.
ثم بدأت بعد ذلك دورة جديدة من الدفء المناخي في العالم استمرت حتى نهاية القرن التاسع عشر، تبعتها فترة باردة لغاية عام 1925، ومنذ ذلك الوقت توقع بعض العلماء أن تستمر الدورة الدافئة لغاية عام 2010، حيث يتوقع علماء آخرون أن تعود بعد ذلك الدورة الباردة من جديد، وربما تمتد إلى عام 2110، مع بعض الفترات التي تشتد فيها الانفجارات الشمسية؛ ولكننا نعتقد أن التلوث الحالي لن يسمح لهذه البرودة أن تشتد كثيراً، لأن تلويث الأرض قد رفع من درجة حرارة هذا الكوكب وسوف يستمر في فعل ذلك خلال القرن الحادي والعشرين في أغلب التقديرات.