كتاب "التناذر الاسلاموي وتحولات الرأسمالية"، للكاتب أحمد هني، ترجمة ميشال كرم، الاسلاموية السياسية، الناطقة الجديدة بلسان "المحرومين"، لا تهاجم الملكية والقدرة السياسية التي تنبثق منها، بل تهاجم السيادة والحكم ا
أنت هنا
قراءة كتاب التناذر الاسلاموي وتحولات الرأسمالية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
والحال أنه، ما خلا بضعة بلدان قليلة السكان (بروناي، عُمان، الإمارات، الكويت، قطر) لا تصل البلدان النفطية الإسلامية إلا بالكاد إلى مستوى عيش مقبول. بل أكثر من ذلك: إن بعضاً منها، نحوز على معطيات بشأنها، ذات مستوى عالٍ من الفقر (15% من السكان وأكثر). على أن النفط ولّد ثروات فردية خيالية ليست نتيجة تاريخ صناعي للجهد وللعمل. إن هذه الثروات، التي تعرض غالباً على نحو مشهدي، تحمل على الاعتقاد بسراب ثروة لامتناهية تجب إعادة توزيعها. فإذا كانت بعض شرائح المجتمع قد أثرت على نحو خيالي في البلدان النفطية، فإن مجموع السكان لا يفيدون بالتأكيد من نفط لا يزدهر عليه، في الغالب، سوى اقتصاد تجاري يقوم على التصدير والاستيراد. إن الجدول التالي يبين أن هذه البلدان النفطية، والبلدان العربية على الأخص، لا تنتج شيئاً آخر، وأنها ذات اقتصاد أقرب إلى التجاري (تصدير النفط واستيراد الباقي)، وأنها كناية عن مجتمع استهلاك متفاوت، بينما البلدان غير النفطية تحاول أن تغدو مراكز للإنتاج.
لا يبدو أن البلدان النفطية العربية، بالرغم من ثرائها، تحوز جهازاً إحصائياً موثوقاً لوضع معطيات عن الفقر عندها. بيد أنه بالنظر إلى وجود أجهزة ذات وزن للرقابة في هذه البلدان، فإن إخفاء معطيات تتعلق بإعادة التوزيع غير المتساوي هو على الأرجح وليد إرادة سياسية أكثر منه نقص في الإعلام. غير أن البنك الدولي قد نجح في احتساب مؤشرات التنمية البشرية في جميع البلدان، عن طريق جمع معطيات متنوعة ومتقاطعة. إن مؤشرات التنمية البشرية هذه، التي تتراوح بين صفر وواحد، تنبىء عن مستوى متوسط عيش السكان (الدخل، الصحة، التربية). الولايات المتحدة طبعاً تقترب من المستوى 1 (939.0). أما في البلدان الإسلامية، فالمؤشر يتراوح بين 465.0 (اليمن) و867.0 (بروناي). والأدعى للدهشة هو أن العربية السعودية (750.0) رغم نفطها، لا تتقدم على تركيا (751.0) أو الأردن (750.0). يشير هذا إلى أن البلدان النفطية الإسلامية الكثيرة السكان ليست في طليعة التنمية البشرية، ما يثير دون أي شك مشاعر حرمان عند مجموع السكان. كما أن الجزائر (642.0) ليست في حال أفضل من المغرب أو مصر، الأقل إفادة من سخاء العناية الإل~هية (620.0 و653.0).
ويبدو أن التحليل الكمي يشير إلى ترابط بين مشاعر الحرمان هذه في البلدان النفطية وبين نمو حركات إسلاموية احتجاجية سياسياً. وسواء أكان ذلك يتصل بالإنفاق على الصحة أو التربية، أو على وضعية النساء، فإنه يلاحظ وجود تقصير فاضح، حتى في أكثر بلدان النفط ثراء.
فإنه في أفضل الحالات (الإمارات العربية المتحدة) لا يمثل الإنفاق على الصحة بمعدل الفرد سوى 18% منه في الولايات المتحدة، بينما تسجل هذه الإمارات ناتجاً سنوياً بمعدل الفرد يزيد عن 000.22 دولار بالسنة. وعلى سبيل المقارنة، فإن إسبانيا، على الصعيد إياه، تخصص للصحة 1607 دولارات سنوياً بمعدل الفرد، أي زهاء الضعفين ونصف الضعف. وعلى مستوى ثرائي مماثل بمعدل الفرد، تخصص الجزائر 169 دولاراً فيما تخصص كوبا 229 دولاراً! ما من شك في أن هذه الأرقام تعبر عن تفاوتات في إعادة توزيع الريع النفطي. وتؤكد معطيات أخرى (الربط بشبكة ماء الشفة، نسبة التجهيز بالهاتف، الحواسيب، استعمال الإنترنت) أن البلدان النفطية الإسلامية، على عكس الصورة التي تعطيها عنها نخبها الحاكمة، تبقى بلداناً لا يبدو جميع سكانها يتمتعون بشكل مقبول بالعناية الصحية، والمدرسة، والعمل أو المواصلات. ففي العربية السعودية يوجد 136 حاسوباً صغيراً لكل 000.1 شخص مقابل 658 في الولايات المتحدة. ويتدنى هذا العدد في الجزائر إلى 8 فقط! وفي ليبيا، يستعمل الإنترنت 21 شخصاً من أصل كل 000.1 من السكان (551 في الولايات المتحدة) و66 في العربية السعودية، و230 في الكويت.
والبلدان النفطية العربية هي، بين البلدان الإسلامية، تلك التي يسمح فيها الثراء بإبقاء النساء خارج النشاط الاقتصادي (20% من النساء البالغات أكثر من 15 سنة من العمر يزاولن عملاً في عُمان، و42% في قطر) بينما يرتفع هذا الرقم إلى 56% في أندونيسيا وأكثر من 50% في بروناي. التعليم عند النساء لا يزال غير كافٍ في هذه البلدان الغنية حسب الظاهر: 70% فقط في العربية السعودية و60% في الجزائر. وفي البلدان غير النفطية، نجد أعلى مستوى لعمل النساء في بنغلادش: 66% من الإناث اللواتي تجاوزن الخامسة عشرة من العمر يزاولن نشاطاً اقتصادياً علنياً. وتبلغ هذه النسبة 51% في تركيا، و30% في كل من مصر والمغرب. وتبلغ نسبة التعليم بين الإناث اللواتي تجاوزن الخامسة عشرة من العمر 86% في تركيا، لكن أقل من 44% في مصر، و39% في المغرب.
يتبين من كل هذه المعطيات أن هناك هوة بين الأفق الاستهلاكي الذي تحمله الإيديولوجيا الإسلاموية والواقع المرير في البلدان الإسلامية. فإن الإيديولوجيا الإسلاموية، باستنادها إلى المنّ النفطي المتركز في أيدي نخب قائدة ذات استهلاك خارق، قد عللت السكان بوهم توسيع هذا الاستهلاك الخارق حتى يشمل كل المسلمين، فأثارت في البلدان الإسلامية النفطية «هيجاناً» للطموحات بعيداً كل البعد عن الإمكانات الاقتصادية الفعلية لهذه البلدان. إنها باختصار أنجبت مهووسين باللَّه أكثر مما أنجبت من نمو اقتصادي.
لقد قامت أول «ثورة» إسلامية معاصرة سنة 1979 في بلد نفطي بالضبط هو إيران. سنحاول الآن، من خلال مسألة النفط هذه، أن نلقي الضوء على الروابط بين ولادةالإسلاموية السياسية والأفق الاستهلاكي الذي ظهر فجأة في البلدان النفطية انطلاقاً من سنة 1973.