أنت هنا

قراءة كتاب التناذر الاسلاموي وتحولات الرأسمالية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
التناذر الاسلاموي وتحولات الرأسمالية

التناذر الاسلاموي وتحولات الرأسمالية

كتاب "التناذر الاسلاموي وتحولات الرأسمالية"، للكاتب أحمد هني، ترجمة ميشال كرم، الاسلاموية السياسية، الناطقة الجديدة بلسان "المحرومين"، لا تهاجم الملكية والقدرة السياسية التي تنبثق منها، بل تهاجم السيادة والحكم ا

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 6

وعليه، فإن ثقافة الشركات الموجودة في البلدان النفطية تتمفصل حول بضعة عناصر أساسية:
ـ العمل الإنتاجي يفقد قيمته تماماً ويُحصر بخدام غرباء، دونيين. فالثراء لا يتأتى من العمل الإنتاجي، وإنما هو هبة سماوية محصورة بأبناء النسب. واستحقاق هذه الثروة ذو طبيعة ربانية. إن ثقافة الحداثة الرأسمالية التي تجمع بين العمل والنجاح الفردي غير موجودة هنا؛ وإنما هناك مكانات تثبت وجودها. هذا هو مصدر الصحوة الدينية عند أصحاب الريع، وفي الوقت ذاته، عند رافضيهم «العدالويين». إن انبعاث هذا التدين عند المجموعات التي أثرت بواسطة الريع يستدعي ضرورة شكر الآلهة إذ أنه لا يمكن مماهاة مصدر الثراء إلا مع مصدر عجائبي. على أي حال، إن سلطات بلدان الخليج بالضبط هي التي تبدو أشد محافظة في حقل الدين (السعودية خصوصاً)، والتي أسهمت، بفضل الريع النفطي، في إعادة نشر «الكتب الصفراء» الشهيرة لأجل توزيعها مجاناً تقريباً بملايين النسخ، وهي مؤلفات دينية منسية باتت فجأة في متناول كل من يحسن القراءة، كما أنها مولت المسلسلات المتلفزة التي تشيد بزمن الإسلام الغابر. نجد هنا الثنائية إياها دائماً: استهلاك وإسهام في انبعاث الإمبراطورية. وهنا، أكثر من أي مكان آخر، تتماهى الثروة فعلياً مع كمية من النقد يجنيها المرء مجاناً وتسمح له بشراء كل ما يريد دون أن ينتج شيئاً مقابل ذلك. حتى النفط بالذات تستخرجه شركات أجنبية.
ـ في البلدان ذات الكثافة السكانية (أندونيسيا، إيران، الجزائر، العراق) حيث لا يمكن إعادة توزيع الريع بصورة مباشرة، توجد مجموعة واحدة تحتكر استعمال هذا الريع، وذلك غالباً عن طريق تأميم الشركات النفطية، ما يتيح لها الظهور بمظهر «معاداة الإمبريالية». وهي في الواقع إنما تحل سيادتها محل الملكية وتجعل من هذه السيادة مصدراً للثراء. ثم أنها تعيد توزيع قسط كبير منها تحت شكل رواتب وأجور لموظفين في إدارات تغص بهؤلاء أو في مصانع تشترى في كثير من الأحيان على سبيل الديماغوجية التنموية والعدالوية. السلطة السياسية هنا تريد الظهور بمظهر الحداثة. على أنها، بالنظر إلى احتكارها إعادة توزيع الريع، تعتبر نفسها فاعلة خير (ولياً) أكثر منها مديرة رشيدة للإنماء عن طريق تنظيم أشغال إنتاجية. إن مثل إعادة التوزيع هذه، المرتكزة على خلق وظائف إدارية أو صناعية ينتج عنها إقصاء قسم كبير من السكان، وسيطرة الدولة على الريع تجعل الوصول إلى الثراء خاضعاً للسيادة أي لقرارات السلطة والإدارة. وربّ توقيع واحد يمكن أن يعني الثراء. من هنا كانت الرهانات القاتلة على الحكم وقيام أجهزة عسكرية وبوليسية تتميز بها كل المجتمعات النفطية. باستثناء بلدان ذات تقليد برلماني قديم حيث ظهر النفط بعد قيام الديمقراطية، وحيث يشكل النفط ملكية خاصة (بريطانيا العظمى والنروج)، لا وجود لأي مجتمع نفطي ديمقراطي. غير أن بريطانيا العظمى والنروج لم تنجوا من عدوى التصرفات الريعية. فالتاتشرية هنا دمرت الصناعة والعمل الإنتاجي لصالح الـ غولدن بويز في السيتي، وهناك، دفع الريع إلى انعزال مبني على منافع مكتسبة تتناقض مع الاندماج في أوروبا تنافسية (11).
إن انغلاق المجموعة التي تحتكر السلطة السياسية والأعمال النفطية يخلق تصلباً اجتماعياً إلى حد يجعل كل تبديل للأشخاص يبدو غير ممكن إلا بواسطة العنف، كما هي الحال في مجتمعات المكانة. وبالفعل، فإن المرء لا يدخل نادي الثراء العجيب هذا عن طريق العمل الإنتاجي، هذا النادي الذي لا يرتاده إلا أفراد تنتقيهم سلطة ملكية أو دكتاتورية. في مجتمع النفط يتماهى نادي الحكم مع نادي الحياة. وينجم عن ذلك في كل مكان تقريباً إعادات ترتيب عنيفة للحكم (انقلابات عسكرية، ثورات مدنية، حروب). الطامحون ينكرون كل شرعية سيادية للحاكمين، فيما يسعى هؤلاء إلى تحويل وظيفتهم إلى مكانة دائمة، وحتى وراثية. الرافضون، على عكس ذلك، يطالبون بتساوي المكانات، مستندين إلى إيديولوجيات تتوسل نعم العناية الإل~هية. حتى الحرب بالذات بين بلدين (الكويت ـ العراق) بررها قسم من الرأي العام العربي بوصفها حرباً عادلة مبنية على شرعية القسمة العادلة لثروة موهوبة من لدن اللَّه. إن عودة النزعة الدينية هذه، التي تلاحظ في الشرق كما في ثورة الشياباس المكسيكية، تدعم الفكرة القائلة بأن الثروة موهوبة وخاضعة للاقتسام. الثروة ليست بنت الإنتاج (12).
إن ثقافة اللاعمل هذه لم تظهر بعد إخفاق الشيوعية. وإذا ما بدا اليوم أنها تحل محلها من حيث وجوهها الاقتسامية، فهي في الواقع سابقة لها وتتبدى كنتاج للتحولات الريعية التي يسجلها العالم الاقتصادي.
نحن نجهل الدور الذي لعبه الريع في الاتحاد السوفياتي نفسه. فلا يجوز أن ننسى أن الاتحاد السوفياتي كان، ولا يزال بشكله الروسي، المنتج الثاني العالمي للنفط، وأنه كان ينتج أيضاً الغاز الطبيعي، والذهب، والألماس. هنا يطرح سؤال حول معرفة ما إذا كان الاقتصاد السوفياتي استطاع البقاء مدى عقود بفضل هذه الريوع. مثل هذا الاحتمال يمكن أن يفسر أمرين:
ـ العنف الراهن لإعادة ترتيب الأمور على مستوى قمة الحكم لأجل السيطرة على هذه الريوع؛
ـ الفكرة القائلة بأن فرض عمل إنتاجي على المواطنين لم يكن سوى وسيلة لقمع السكان مع العلم أنَّ هذا العمل كان في جزء كبير منه غير مجدٍ من الناحية الإنتاجية لكنه كان ضرورياً لأجل تحديد مكانات مجتمعية.
إن المجتمع الريعي، إذ يفصل بين الثروة والعمل الإنتاجي يبتعد عن إيديولوجيا فعل الجلب ليعتنق إيديولوجيا انتظار المجيء. يبدو أنه يقول: الرزق على اللَّه. فالأمر الجوهري هو إشغال مكان يسيطر على المنّ السماوي. وبعد احتلال هذا المكان يحسن بالمرء أن يشكر اللَّه ويوزع قسماً من الثروة على من هم دونه بركة أي من هم أفقر منه. يترجم هذا، من جهة، بعودة قوية للنزعة الخيرية. لقد استطاع الناشطون الإسلامويون أن يجتذبوا «المحرومين» بما يقدمون لهم من خدمات إنسانية (في مجالات التربية والصحة والتعاضد والإسعاف) لا تؤمنها سلطة الدولة الحاكمة (13)، ما ينعكس سلباً على سيادتها. ويجرى، من ناحية ثانية، تماه بعد حين بين الثراء والبركة الإل~هية من جهة، وبين الفقر والعقاب الإل~هي من جهة أخرى. فالاضطرار إلى العمل الإنتاجي عقاب. لهذا السبب يمكن للمجتمع النفطي أن ينجب رسلاً أكثر مما ينجب مهندسين.
ولقد أدرك الناس أنه لأجل الإثراء في ظل النظام النفطي، أي لأجل الحصول على قطعة من السلطة، يجدر بهم لا أن يعالجوا الأشياء بعمل إنتاجي، بل أن يعالجوا البشر عن طريق ترتيب متخيلهم، لذلك فإن قادة البلدان النفطية لم يقنعوا شعوبهم بواسطة منجزات في مضمار التنمية المادية. هذه المنجزات ليست وليدة عمل فعال في الأشياء، وإنما هي، في نظر الثقافة الشعبية، آتية من نعمة جاد بها نظام رفيع، هو النظام الأسمى، وهي فوق ذلك نعمة يحتكرها في الغالب دكتاتور. وعليه، فإن كل مطلب (سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي) لا يعود بالإمكان إلا أن يتخذ ملامح دينية. ولهذا فإن وجود إيديولوجيا دينية (الإسلام) جاهزة للاستعمال وتجمع بين هذه الوجوه الثلاثة في بلدان الشرق النفطية، كان لا بد من أن ييسر عمل رسل الريع الجدد، الداعين، باسم «العدالوية» إلى الطعن بالسيادة.

الصفحات