كتاب "التناذر الاسلاموي وتحولات الرأسمالية"، للكاتب أحمد هني، ترجمة ميشال كرم، الاسلاموية السياسية، الناطقة الجديدة بلسان "المحرومين"، لا تهاجم الملكية والقدرة السياسية التي تنبثق منها، بل تهاجم السيادة والحكم ا
أنت هنا
قراءة كتاب التناذر الاسلاموي وتحولات الرأسمالية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الصدمة النفطية سنة 1973:من البداوة في الصحراء إلى روليت الكازينو
ارتفعت مداخيل البلدان النفطية سنة 1973 إلى أربعة أضعافها، فانتقل سعر البرميل من 2.5 دولار إلى 11 دولاراً. وفي مطلع الثمانينيات وصل إلى 30 دولاراً كما تجاوز في لحظة ما (2005) 60 دولاراً. فإذا كان أمير أبو ظبي يستطيع أن يكدس دولارات نفطه في صناديق قصره ويثابر على حياة البداوة كأبيه، فإن المنّ الذي نزل من السماء بعد سنة 1973 لا يمكن أن تسعه صناديق رجل واحد. وفي البلدان النفطية، لم يعد المال يحتسب بملايين الدولارات ولا حتى بمليارات الدولارات بل بعشرات المليارات. وقد بلغ فائض البلدان النفطية المنتسبة إلى منظمة البلدان المصدرة للنفط (OPEC) 68 مليار دولار سنة 1974 وتجاوز مبلغ 100 مليار دولار سنة 1980. وفي مدى ست سنوات، بين (1974 و1980)، وصل الفائض التراكمي للواردات عن النفقات عند بلدان (OPEC) إلى 600 مليار دولار، أي المليارات التي باتت جاهزة للاستعمال في السوق المالية الدولية، وما يقابلها من فرص إثراء لبدوٍ باتوا رجال أعمالٍ، ومن سراب بلوغ مجتمع استهلاك وفير.
إن الثروة النقدية المتأتية من النفط هي المثال النموذجي للثروة الريعية. وهي في بلاد الإسلام تتبدى هبة سماوية ينبغي لها أن تحرر المسلمين من مشقات العمل الإنتاجي. وهي تبث في العالم ثقافة جديدة هي ثقافة الإثراء العجائبي، نقيض العمل في المصنع.
1 ـ في البلدان المتطورة، صنعت هذه الثقافة صورة الإثراء السريع والخرافي، صارفة النحل عن القفير الإنتاجي. وابتدأ السباق على دولارات النفط: صار السماسرةوغيرهم من الوسطاء موضة رائجة، ما أدى إلى قضايا فساد فضائحية (9). إحدى الشخصيات البارزة في مضمار الوساطة هذا كان عدنان خاشقجي الذي اقترن اسمه بنمط عيشٍ باذخٍ، وبارتياد الأماكن الأكثر فخامة، والتنقل بواسطة طائرة خاصة، وتجارة اللوحات الفنية.
2 ـ في البلدان المنتجة للنفط، برزت فئتان من الناس: فئة المهيمنين على المنّ النفطي، والآخرون.
إن الصورة الزاهية المرتبطة بالثروة النفطية العجائبية هي صورة تلك الدول الخليجية المغرقة في الصغر التي يقطنها بضعة آلاف من الرحّل وحيث سرعان ما وصل الدخل بمعدل الفرد إلى مستوى دخل الفرد في الولايات المتحدة أو في سويسرا. إن هذه الإمارات تعطي عن الثروة صورة تحط من قيمة كل ثقافة للعمل الإنتاجي: يكفي أن تولد كويتياً كي تتمتع بريع مدى الحياة. والصورة التي تعطيها هذه الدول تجمع بين الثروة النفطية واخضرار الصحراء بواسطة ملايين الدولارات، والدارات ذات المرجات الخضراء في ظل حرٍ يبلغ 40 درجة في الظل، وأبنية من الزجاج والفولاذ، وقصور من ألف ليلة وليلة، ومستشفيات من أحدث طراز، وجامعة لأجل سكان يبلغ عددهم 10 000 شخص، ومكيفات هواء في كل مكان، وعملة قابلة للتحويل، ومقادير وفيرة من المنتجات اليابانية أو الأميركية، وغذاء مستورد (خبز طازج يأتي بالطائرة كل صباح)، إلخ.
وتبث شبكات التلفزة الوطنية في هذه البلدان صورة لنماذج مجتمعية جديدة: عائلات من أصحاب الريع تبتاع نساؤها الملابس من لندن أو باريس، ويدير رجالها مؤسسة تجارية أو مالية، ويرتاد جميع أولادها الجامعة حيث يدرسون الطب أو الحقوق، وتمضي إجازاتها في القاهرة أو نيس أو لندن محاطة برهطٍ من الخدم الساهرين على تلبية أصغر رغبة لآخر ولد غارق تحت جبل من الألعاب. لكن طراز الجموح الاستهلاكي هذا، الذي تتناقله وسائل الإعلام، لا يطال مجموع السكان، خصوصاً في البلدان النفطية الكثيفة السكان. غير أن الصورة التي يعطيها أمراء النفط الجدد تروّج لفكرة أن كل شيء ممكن للجميع. حتى فكرة استعادة المجد الإمبراطوري الغابر. وعلى هذا، فإنه إلى مطلب إعادة النظر في التوزيع الاستهلاكي، وتعميم الاستهلاك الجامح، تضاف العقيدة الألفوية والحنين إلى الإمبراطورية المنقرضة. هذان هما مفتاحا الإسلاموية السياسية الوليدة.
فها هو شاه إيران يدشن الدورة الألفوية فيقيم احتفالات برسيبوليس الباذخة، كمؤشر إلى الانبعاث الإمبراطوري، ولكنه في الوقت ذاته يغرق في الاستهلاك الجامح من خلال إقامة الأسرة الإمبراطورية في سان ـ موريتز مثلاً. فهو مسلم رمزي يعمد، بفضل النفط، إلى بعث الإمبراطورية، ويبلغ مستوى الاستهلاك الذي يتمتع به أفراد المركز العالمي للاستهلاك. وما قول الإسلامويين في ذلك؟ إن دولته «فاسقة» لأنها لا تؤمن توزيعاً عادلاً لهذا المجد وهذا الاستهلاك. لكنه ليس الوحيد. أنظروا إلى هذا الأمير الخليجي الذي يبدد بصورة ملوكية ريعه في كازينوات القاهرة أو بيروت، أو على موائد القمار في موناكو. أنظروا إلى هذا القصر في سين ـ أى ـ مارن أو تلك الدارة على الشاطىء اللازوردي اللذين اشتراهما أولئك الأثرياء المتباهون الجدد.
إن جموح الاستهلاك والمجد اللذين يتباهى بهما هؤلاء الأمراء ليسا ممكنين إلا في ظل تفاوت القدرة. فعلى عكس الإقطاعية، حيث السيد لا يعمل بل يضع العمل على عاتق أقنانه، وحيث يتأتى التفاوت بالتالي من الملكية، فإن الأمير في البلدان النفطية لا يملك باطن الأرض ولا يستمد ثروته لا من ملكية ولا من تشغيل أبناء رعيته، وإنما هو مدين بثروته لسيادته على البلاد. والتفاوت في هذه الحالة ليس وليد تمييز بين مالكين وغير مالكين، بل بين أسياد وغير أسياد. ولذا فإن مطلب المساواة لا يرمي إلى إلغاء الامتيازات المرتبطة بالملكية، وإنما يرمي إلى اقتسام السيادة ويدخل مباشرة في نزاع مع الحكم السياسي.
إن هؤلاء الأمراء مضطرون للاحتفاظ بسيادتهم على البلاد بأي ثمن كي يحافظوا على امتيازاتهم. ليس لهذا أية علاقة بمالكين قد يتكيفون مع تغير في السيادة، فيعلنون ولاءهم لملك الفرنجة يوماً، ولدوق بورغوني في اليوم التالي، دون أن يغيروا شيئاً في العلاقات الإقطاعية. أمير النفط لا يعود شيئاً إذا صار خارج الحكم. فهو غير قادر على التكيف مع تغير صاحب السيادة، ولا مع حلول شخص آخر محله وانصرافه هو إلى اكتساب الثروة بطريقة أخرى. في بلدان النفط، لا يصل المرء عموماً إلى الثراء عن طريق المشروع والملكية بل عن طريق السيادة على النفط.
وعليه، يكون من واجب الأمراء الريعيين تقريباً أن لا يقبلوا بو