أنت هنا

قراءة كتاب التناذر الاسلاموي وتحولات الرأسمالية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
التناذر الاسلاموي وتحولات الرأسمالية

التناذر الاسلاموي وتحولات الرأسمالية

كتاب "التناذر الاسلاموي وتحولات الرأسمالية"، للكاتب أحمد هني، ترجمة ميشال كرم، الاسلاموية السياسية، الناطقة الجديدة بلسان "المحرومين"، لا تهاجم الملكية والقدرة السياسية التي تنبثق منها، بل تهاجم السيادة والحكم ا

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 9

التقني والحقوقي

الطرح الأول الذي نعرضه هو التالي: التشكيلان المجتمعيان على ضفتي المتوسط هما إفرازان وارثان، من جهة، لممارسات طبيعوية مصدرها بلاد الإغريق السابقة للإسكندر، وهي ممارسات طبيعوية لمنعزَل إنتاجي رغم ازدهار التجارة فيه، لكنها تجارة مبنية على الملكية لا على السيادة الإمبراطورية، ومن جهة أخرى، لممارسات إمبراطورية تجمع بين السيادة والملكية، موروثة عن روما. والحال أنه إذا كان الشمال يتقدم نحو طبيعوية الإنتاج، معززاً، بواسطة الإقطاعية، دور الملكية، وبواسطة العلم، دور التقنية الإنتاجية، فإن الجنوب يتجه نحو تحايلية ضريبية وتجارية للغنم الخارجي ويتوسع في المسائل القانونية للقسمة. ويتبدى الشمال، حتى قطيعة 1492، كمجموع منعزلات إقطاعية، أياً يكن اتساعها الجغرافي، فيما الجنوب، حتى هذا التاريخ يعمق الغنم الضريبي والتجاري بواسطة السيادة الإمبراطورية.
تضم بلاد الإغريق تشكيلاً مجتمعياً يجمع بين طرازي العلاقات الاجتماعية:
ـ علاقات إنتاج متضادة بين أسياد وعبيد؛
ـ علاقات مساواة بين مواطنين.
الأسياد لا يحصرون نشاطهم في مضمار الإنتاج وفي استخدام العبيد؛ بل كانوا يتعاطون أيضاً تبادل البضائع مع مجموع شرق المتوسط. ومن هذه المبادلات يجنون ثروات تتيح لبعضهم ممارسة إعادة توزيع هامة على شكل إحسان فردي وليس منظماً من قبل الدولة كما في روما. هكذا يتبدى لنا المجتمع الإغريقي بصورة تناقضية ذا مكانات متضادة وينشد المساواة، كمجتمع إنتاجي وإحساني، وبكلمة، كمجتمع تراتبي وغير إمبراطوري، لأنه يقيم في داخله تمييزاً من حيث الطبيعة بين الأسياد والعبيد، بين المواطنين والبرابرة.
لقد أنتجت النقاشات الدائرة حول إعادة بناء البلاد، ابتداء من هزائم القرن الخامس قبل الميلاد، النماذج الثقافية والفلسفية التي نعرفها اليوم حيث انقسم المفكرون الإغريق آنذاك إلى معسكرين: كان بعضهم ينتمي إلى تيار «الجدوانية» المتمثل في الأفكار السفسطائية والذي يفضل في العلاقات الاجتماعية وجهها الفعال في غنم الثروات؛ وكان الآخرون يتجمعون حول التيار الأفلاطوني وينشغلون بأساليب تنظيم المدينة الفاضلة المتمركزة حول فرد متفوق.
هذه المدينة المثالية، التي تريد التوفيق بين العبودية والمساواة المواطنية الغائية والتوزيعية، لم تعرف الوجود في زمن أفلاطون. غير أنها أنجبت فيما بعد نموذجين تاريخيين من المدن:
ـ أحدهما عبودي وإنتاجوي، منغلق على ذاته، يسوده تفاوت طبيعوي ينتج فيه الإنسان التقني، بواسطة التقدم التقني، المساواة المواطنية الغائية، مجتمع الوفرة. إن المجتمع الإنتاجي غير المساواتي هو الذي يقود إلى المجتمع الاستهلاكي المساواتي.
ـ والآخر، المنشغل بالتنظيم القانوني والتوزيعي وبالتالي الفاتح والإمبراطوري، حيث التساوي في المكانة هو الهدف والاستهلاك عن طريق الغنم هو القاعدة.
في الشمال تعززت فكرة المنعزل الإقطاعي حول ملكية فرد متفوق يوفق بين تراتبية تضادية مباشرة ومساواة غائية ـ ملكوت اللَّه. وبات وجود هذا التعايش أحد العناصر المشكلة للمنعزلات الإقطاعية المطلقية في الشمال. مبدأ هذه المنعزلات هو أن لا تعيش إلا على ذاتها، مكرهة قسماً من سكانها على القيام بعمل إنتاجي وجاعلة له مكانة دنيا، لكنها تعتبره مساوياً في الطوباوية الانصهارية الغائية. والتجار هم أصحاب «المكان الضيف» (15) في هذه المنعزلات.
وفي الجنوب، يتجسد إرث الإسكندر ومن بعده إرث روما الإمبراطورية في ممارسة غنم ثروات الشعوب الخارجية مصحوباً بعروض للشراكة أو للانضمام. التراتبية هنا لم تعد تفرق بين منتجين وغير منتجين ينتمون إلى مدينة واحدة، بل بين مواطنين للمدينة و«برابرة» خارجيين. والنقاشات في المدينة لا تتناول المساواة في الأحوال بل المساواة في المشاركة في الغنم الحربي أو التجاري. ومشكلة المدينة، هنا، ليست مشكلة تشغيل جزء من سكانها بل اختيار أسياد الغنم الأفعل على الخارج وتحديد أساليب التوزيع المؤسساتية.
لقد ولّد التاريخ إذن طرازين لتشكلات مجتمعية متنافرة لكنهما في الواقع من أصل واحد. فهناك التشكلات الوارثة لممارسة التضاد الإنتاجي، المنغلقة على ذاتها بقواعد صارمة للملكية، من جهة، وهناك من جهة أخرى تشكلات تتبنى الملامح الإمبراطورية للغنم الخارجي عن طريق السيادة، متمسكة بالتضاد مع خارجها وزاهدة بنمط الغنم الطبيعوي.
إن إنتاج التمثلات، في تشكلات الضفة الجنوبية، ليس من صنع المسائل المتصلة بتقنيات الإنتاج الطبيعوي أو مسائل شرعية الربح التجاري وغنائم الحرب. هنا تظهر مسائل قانونية فقط: كيف ينبغي قوننة الشراكة في النشاط، والعلاقات بين البائعين والشارين، واقتسام ثمرة الغنم الخارجي، وأخيراً أنماط إعادة التوزيع. هذه الأخيرة ليست إحساناً بل هي حصة شرعية لكل فرد في ناتج الغنم الخارجي. وبعد ذلك كيف يجب تنظيم المدينة؟ هذه ليست سوى مسائل تخص الحقوقيين واختصاصيي القانون الدستوري (16).
ولما كانت الثروة تتأتى من التبادل أو من غنم على آخر خارجي، فإن العلاقة الرامية إلى تحويل المادة تعود إلى الآخر الخارجي لا إلى الذات. إنَّ العلاقة بالطبيعة ليست علاقة إنتاجية، فعلى الآخر الخارجي أن ينخرط في تضاد إنتاجي مع الطبيعة . لذا فإن المدينة أقل انشغالاً بتقنيات تحويل النظام الطبيعي والمادي، الذي يعتبر معطى وكاملاً، منها بإدارة نظامها الإنساني الداخلي بواسطة القانون . والعقلانية العلمية لا تهدف إلى معالجة المادة إنتاجياً بجعلها تُظهر كل أشكالها (الآخر الخارجي هو هنا لأجل ذلك) بل إلى معرفة نظام المادة فقط لتحسين إكمال النظام الإنساني للمدينة. إنَّ المرء لا يتساءل، هنا، حول الإمكانات الإنتاجية الكامنة في هذه المادة أو تلك بل حول الحق في استعمالها، لذلك فإنَّ المسألة ليست مسألة تنمية المعرفة عن شجرة الزيتون (مثلاً) بغية جعلها تنتج مزيداً من الزيتون، بل هي التعرف على هذه الشجرة كي نجد فيها تجلّي النظام الطبيعي الكامل (الذي لا يجوز تغييره)، ومن ثم، معرفة ما إذا كان الغنم من طبيعة (الزيتون) صالحاً للنظام البشري. نحن لا ندرس النجوم بغية الذهاب إليها بل لأجل معرفة الحركات التي تنظم الأفعال المجتمعية في المدينة (التقويم، ساعات الصلاة، إلخ.). وليس هنا تساؤل حول تساوي المواطنين في المدينة (إنه معطى نوعي)؛ وإنما هناك تنظيم مؤسساتي للأنماط المجتمعية لفعليته.
إن المبدأين المنظمين للمدينة ، أي الاقتطاع من الآخر الخارجي وتساوي الأفراد في المكانة، يبعدان كل شكل من أشكال السؤال حول إمكانية الجمع بين أساليب تنظيم البنية البشرية ووجود علاقات تضادية وتراتبية للإنتاج. وعلى عكس ما يجري في المنعزلات، لا يُسعى هنا إلى معرفة ما إذا كان الإثراء التجاري شرعياً، بل إلى معرفة كيف يجب عليه أن يسهم في اكتمال النظام في المدينة . فكل شكل من أشكال النشاط شرعي، وليس هناك أي تناف من نوع «طبيعي» بين شكل الإثراء هذا أو ذاك مع الانتساب إلى المدينة . إن تشكلات جنوب المتوسط لن تكون رأسمالية مصنعية، وهي ستراكم ثروات لا ماكنات.

الصفحات