هذا الكتاب الذي بين أيديكم هو شذرة ويجب أن يبقى شذرة. وبصدق وصراحة فإني أود لو أن هذا الكتاب لم يطبع.
أنت هنا
قراءة كتاب في تاريخ الدين والفلسفة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
هاينريش هايني والفلسفة
بقلم المترجم
هاينريش هايني شاعر بكل ما في الكلمة من معنى. فما أنجزه على صعيد الأدب، ولا سيما الشعر، يضعه في مصاف الشعراء العظام. ولو عدنا إلى أمّهات الكتب التي تؤرخ للفلسفة والفلاسفة لوجدنا أن فهارسها لا تشتمل على اسم هايني. ومع هذا فإننا لا نريد أن نحدد للشاعر مكاناً في تاريخ الفكر الفلسفي إذا كنا استهللنا كتابه هذا(*) بمقدمة تتناول علاقة الشاعر بالفلسفة. إنَّ غايتنا أن نعرّف به شاعراً يخوض ميداناً ليس سهلاً الخوض فيه، وذلك ليقاسمنا بصدق وإخلاص "هذه الكسرة من الخبز الروحي" التي ينتزعها من "مخازن القمح الموصدة لشعب لا يملك المفاتيح إليها"(1). وبكل تواضع يعترف أنه ليس عالماً ولا ينتمي إلى "حكماء ألمانيا السبعمائة"(2). ومع هذا فإنَّ ما يعرضه لنا في هذا الكتاب بأسلوبه الفكه الرشيق ليستحوذ على اهتمامنا ويستأثر بألبابنا بحيث إنَّ الأفكار والمواقف تبرز أمامنا واضحة حية. وجدير بالذكر أن اهتمام هايني بالفلسفة والفكر الفلسفي لم يكن نابعاً من إحساسه بأن هذا شرط لوجوده الشعري، مع أن موقفه من مؤلفاته النظرية يبقى موقفاً غامضاً. فهو تارة يقول إن مؤلفاته النظرية والشعرية لم تنبثق إلا دفعةً واحدة، بينما يصرح تارة أخرى ساخراً متهكماً بأنه بحث عن موضوعات ممكنة لأعماله النثرية فلم يجدها إلا في الموضوعات الفلسفية. وإلى هذا فإنه ليخيل إلينا أيضاً أنه يقدّر أعماله النظرية أكثر مما يقدّر أعماله ومؤلفاته الشعرية، لكأنه يرى فيها البديل عما يتخلل القصائد من نقاط ضعف.
ثم إنه، فيما بعد وفي أواخر أيامه، يبتعد عن الفلسفة معترفاً بأنه لم يطمئن إلى أي مذهب فلسفي ولم ير في الفلسفة إلا ميدان رقص للفكر(3).
وإذا كان هايني جديراً بأن يحمل اسم شاعر كبير فإنه أيضاً كاتب صحافي واسع الثقافة والاطلاع ملمّ بنتائج الفكر ووثيق الصلة بالتراث الفكري المعاصر أكثر من أي كاتب من معاصريه.
وعلى هذا فإنه يتيح لنا أن نطلع على بعض الاتجاهات ذات الأهمية لوصف الموقف الفلسفي بعد موت هيجل.
والحق أن هايني يذكر في "اعترافاته"(4) أن المذاهب الفكرية كانت مألوفة لديه منذ أن كان طالباً في الثانوية، إذ أن شالماير، مدير الثانوية وصديق الاسرة، كان يسمح له بحضور محاضراته في الفلسفة. على أن فترة الدراسة الجامعية التي أمضاها في برلين من سنة 1821 وإلى سنة 1824 كان لها الدور الأهم في تكوين فكر هايني الفلسفي وتطوره. إذ كان عرضة لتأثير هيجل، أستاذ الفلسفة في جامعة برلين. ولقد أثّر فيه هيجل من خلال المعاشرة الشخصية والاجتماعية أكثر مما أثر فيه من خلال مؤلفاته ومحاضراته.
ومع أن هايني أدرك دور الفلسفة الهيجلية وأهميتها، ليس فقط لا للعصر الذي ظهرت فيه، بل للأعصر اللاحقة أيضاً بما حملته من أفكار جديدة خضعت لتفسيرات عديدة، فإنه لم يكن من أتباع هيجل من غير قيد أو شرط. فحين اهتدى إلى حظيرة الإيمان رأى أن الرحمة المسيحية أكثر بهجة للإنسانية المعذبة من الجدل الهيجلي(5).
والجدير بالذكر أنه انصرف إلى دراسته فلسفة هيجل وهو في المهجر في باريس، ليصورها للجمهور الفرنسي بأسلوب يفهمه عامة الشعب(6)، غير أنه أتلف المخطوط حين ارتدَّ إلى عقيدة العهد القديم، وبعد أن كان أمضى وقتاً طويلاً وهو يرعى الخنازير لدى اتباع الفلسفة الهيجلية، على حد تعبير الشاعر(7).
وعلى أيّة حال فإن الفلسفة المثالية الألمانية يصبح لها أهمية مركزية بالنسبة للصورة التي يكوّنها هايني عن عصره، ولا سيما عن ألمانيا والألمان.
وهذا الكتاب الذي بين أيدينا يعود تأليفه إلى عامي 1833 ـ 1834. ولقد نشر في بادئ الأمر على دفعات في المجلة الباريسية ريفيو دي موند. وحين ظهر هذا الكتاب كان قد مضى ثلاث سنوات على وفاة هيجل. ولقد كتبه هايني، كما هو بيّن واضح، للقراء الفرنسيين بتأثير من انغاتين وشيافلييه زعيمي المدرسة السان سيمونية الطوباوية التي اجتذبت هايني بأفكارها الدينية. وكان هايني قد ألقى عصا الترحال في باريس عام 1830 وذلك بعد اندلاع ثورة تموز ليكون مراسلاً لصحيفة أوغسبورغ العامة. على أن هذا الانتقال لم يكن إلا بداية لحياة مهجر طويلة الأمد.
إن هذا الكتاب محاولة لتقديم تاريخ موجز للفلسفة بأسلوب شعبي يفهمه القارئ البسيط. وفي بادئ الأمر لم يُعرف هذا الكتاب في ألمانيا إلا بالصورة التي شوهتها الرقابة، على نحو ما ذكر هايني في مقدمة الطبعة الأولى.
والشيء الذي يهم هايني في كتابه هذا هو أن يساهم في النقاش الفرنسي حول ألمانيا، إذ ساد الاعتقاد في فرنسا آنذاك بأن الفلسفة الألمانية دينية صوفية روحانية كما فهمتها وصورتها مدام دي شفال في كتابها "عن ألمانيا". أما هايني فيسعى إلى أن تكون متميزة بطابع الخشية من الله والتقوى والورع الربانيين(8).
ولا يقصر هايني نظرته على الدور الألماني في تاريخ الفكر الغربي الحديث. وإنما يتناول في كتابه ديكارت إلى جانب فولف. غير أنه يركز اهتمامه على أهم الأحداث في تاريخ الفكر الألماني، أي على الإصلاح الديني والثورة الفلسفية التي مهد لها الفيلسوف كانط. ويعالج الفلسفة الألمانية في علاقتها بالتقليد الديني ويذهب إلى أن الفلسفة الحديثة استمرارللبداية الدينية ونتيجة أخيرة لها. وينطبق هذا في المقام الأول على كانط والمثالية الألمانية. ويحاول أن يثبت أن في الفلسفة اتجاهاً إلحادياً يتصاعد باستمرار رغم صلات الفلسفة الحديثة الوضعية بالدين.