كتاب " التشرد وانحراف السلوك" ، تأليف لمياء ياسين الركابي ، والذي صدر عن دار الجنان للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب التشرد وانحراف السلوك
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
قاضي الإحداث:
لا ريب ان المسؤولية الملقاة على عاتق قاضي الإحداث في رؤية دعوى الحدث الماثل امامه وفصلها بصورة صحيحة هي مهمة جسيمة . فقراره لا يؤثر على حياة الحدث ومصيره فحسب ، بل انه اذا لم يكن صائباً قد يثـقل كاهل المجتمع ويعرضه لشديد الأخطار اذا ما اصبح الجانح المبتدي مجرماً معتاداً ، فجهود الحاكم يجب ان لا تقف عند حد التثبيت من الجريمة وفرض العقوبة بل ان تذهب الى ابعد من ذلك من خلال تحري بواعث الفعل الدفينة وواقعه الظاهرة الكامنة والعمل على إزالتها واستأصالها .
فان يكون قاضي الإحداث فقيهاً ونزيهاً وموضوعياً غير كافٍ في قضاء الإحداث . اذ يقتضي منه ايضاً معرفة عميقة في مجال العلوم الاجتماعية وان يعمل في مستويات اجتماعية وسايكولوجية وتربوية ,لحاجته في معرفة شخصية الحدث الجانح الماثل امامه ، فالمسالة لم تعد تتعلق فقط بالظروف التي أحاطت بالفعل الجانح بل أصبحت تتعلق بالتكوين البيولوجي وبردود أفعاله النفسية وتاريخة الشخصي وموقفه الاجتماعي .
توافر المعلومات الاجتماعية والنفسية والتربوية لدى القاضي يؤهله فضلاً عن ثقافته القانونية ، الى تفهم نفسية الحدث اولاً ، وتصور نوع وطبيعة البحث الذي يجب ان يجرى على الحدث قبل إصدار الحكم ثانياً ، وتشخيص العلاج الملائم لاعادة تأهيل الحدث الذي هو المقصود والهدف من عمل القاضي والذي يقدمه في صيغة حكم ,وهذا يعني ان قاضي الإحداث تقع عليه مسؤولية جعل الحدث الجانح فضلاً عن أسرته يتفهمون الإجراءات التي تنتج عن المحكمة وما لذلك من اثر تربوي في إصلاح الحدث ، بل من الافضل ان يبذل القاضي قصارى جهده في افهام الحدث الماثل أمامه لتلك الإجراءات ببصيره وتعاطف ، وهذا يتوقف ايضاً على صواب قراره حيال الحدث ومدى فهمه لشخصية الحدث في اختيار التدبير المناسب لاصلاحه .
ان هذه الاجراءات لاينعكس تأثيرها على الحدث وحده اذ قد تصل الى الابوين لاسيما اذا كانا لهما تأثير في جناح أولادهم من خلال المساعدة التي يقدمها لهما لتفهم مشاكلهما وتأثيرها على الحدث . كما لايمكن اغفال مهمه القاضي في عملية مراقبة السلوك التي يتبناها مع مساعديه من الاختصاصات الاجتماعية الملحقين بالمحكمة ، فضلاً عن دوره في الاتصال مع كل المنظمات والهيئات التي لها علاقة بالموضوع .كما يتولى قاضي الإحداث مسؤولية جمع أدلة الجريمة ويقدرها تقديراً قضائياً ، و يأمر بإجراءات تكفل له التعرف على شخصية وسمات الحدث من خلال البحث الاجتماعي والنفسي والطبي ,وهذا يجعل لقاضي الإحداث مهام أخرى فضلا عن دوره كمنفذ للتشريعات القانونية فقط .فمثلاً عليه ان يخاطب الحدث ويعامله كما لو كان ابنه ، فلا يقسو عليه على ما بدر منه وان يشعره بحرصه على مصلحته وهذا يتطلب صبراً وحكمه وروحية محبة للخير لكي يكون قاضي إحداث ناجح يجعل نصب عينيه مصلحة الجانح ,فهو يتلقى بأقصى قدر من ألتفهم أقوال الصبية التي يفضون بما إلية، فهي تعبير على ما تنطوي عليه عقلية الحدث وبالتالي توصله الى القرار المناسب من خلال فهم تلك العقلية ومحاولة جعله يتقبل قرار الحكم ويقتنع انه في مصلحته وتؤدي الى علاجه من اجل تلافي الحالة التي يمكن ان يصبح فيها الحدث اكثر تمرداً اوعنفاً او حقداً على المجتمع . وينبغي اعطاء القاضي سلطة واسعة ومتنوعة تمكنه من اصدار قرارات ليست جامدة او مقيدة تقيداً مطلقاً . وهذا يعني انه ينبغي ان يكون لديه جملة من التدابير والإجراءات التي يستطيع من خلالها ان يحدد الحل الأمثل والأفضل لاصلاح الحدث..
لذا فان قاضي الإحداث يعد ركيزة أساسية ومحوراً رئيساً في العملية الإصلاحية ، لان قراراته سوف يترتب عليها تبعات كثيرة من نوع وكم التدابير التي يفرضها على الحدث وهذا يعني ان القاضي هو المتحكم الأساسي في مصير الحدث . الامر الذي جعل العديد من الباحثين والمختصين بالعلوم الجنائية او الإجرام او علم الاجتماع يفضلون ان يكون القضاة من حملة شهادات العلوم الاجتماعية ولديهم خبرة في القضاء بدلاً من القضاة الذين يحملون شهادات القانون ولديهم خبرة بالعلوم الاجتماعية.وذلك لان وظيفتهم هي اجتماعية تربوية اكثر منها قانونية ، فهي تمس شريحة مهمة من شرائح المجتمع تحتاج الى عناية وتفهم ودراية علمية خاصة في المعاملة ، وكثير من القضاة ربما تنقصه الدراية العلمية بالعلوم الإنسانية او التربوية . وذلك لان تلك القوانين قد سمحت له بقليل من الحرية من خلال قلة التدابير الممنوحة له لاتخاذها لذا وجب ان يكون القاضي قادر على التعامل مع الوقائع بصورة تضمن عدم فرض التدبير غير المناسب الذي يؤدي الى ضياع او خسارة حدث قد لا نستطيع ان نعيده الى المجتمع مره اخرى فكم من التدابير فرضت في غير محلها بسبب تصرف القضاة او سوء تقديرهم للحاله الماثلة امامهم .
فمثلاً في قانون محاكم ولاية كولومبيا الأمريكية يشترط ان يكون قاضي الأحداث ذا أطلاع واسع في المسائل الاجتماعية ومتفهماً لنفسية الأطفال وان يكون من سكان الولاية لمدة خمسة سنوات على الأقل . اما في التشريع العراقي فان القانون يفرض ان يكون قاضي الإحداث من الدرجة الثالثة على الأقل ولكنه لا يشترط عليه الإلمام بعلم الاجتماع او علم النفس او غيره من العلوم الاجتماعية. وربما تكون هذه نقطة ضعف في التشريع العراقي لما لذلك من اهمية واثر كبير في هذا المجال . وتجدر الاشارة هنا الى ان القضاء الانكليزي ذهب الى ان تعين قاضيين لمحكمة الاحداث احدهما امراة لما له من اثر بالغ في اصلاح الحدث الجانح لاشعاره بوجود ام و اب يسعيان في تربيته تربية صالحة ويؤكد العلماء الانكليز بان وجود امراة ذات دراية في نفسية الاطفال وخبره في مشاكلهم يؤدي دوراً فاعلاً في محكمة الإحداث .
ان اهتمام الدول المختلفة بمبدأ أهمية القاضي ودوره في عملية إصلاح الإحداث جعلت منها تولي تلك المسالة اهتماماً كبيراً على الرغم من ان هناك الكثير من الدول الأخرى التي لازالت ترى ان القاضي هو منفذ للقانون بالدرجة الأولى دون النظر الى دوره من الناحية التربوية والنفسية والاجتماعية في حياة الطفل الذي سوف يقرر هو مصيره وطريقه علاجه والتي قد يكون فيها مصيباً او قد يكون مخطأً ، مغيراً بذلك مجرى حياة إنسان كاملة بما قد ينتج عنه من آثار سلبية على الحدث نفسه او أسرته وبيئته الاجتماعية . وتأسيساً على ماتقدم ينبغي اعطاء القضاة أهمية كبيرة ضمن تلك الحلقات المكونة للسلسة الطويلة من الإجراءات المليئة بالشخوص التي يصادفها الحدث بمجرد ارتكابه الفعل الجانح ليصبح بين يدي أناس وجب ان يكونوا مؤهلين للقيام بذلك الدور الجسيم ابتداءاً من شرطة الإحداث او الأخصائيين الاجتماعين او النفسين ثم القاضي ثم كادر المؤسسة الإصلاحية وكل من له علاقة بالموضوع.