أنت هنا

قراءة كتاب التشرد وانحراف السلوك

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
التشرد وانحراف السلوك

التشرد وانحراف السلوك

كتاب " التشرد وانحراف السلوك" ، تأليف لمياء ياسين الركابي ، والذي صدر عن دار الجنان للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 10

إصلاح الحدث الجانح في ضوء نظم الوقاية والعلاج :

منذ بدء البشرية أخذت العقوبة أشكالاً مختلفة ، بدأت بعصر الانتقام الفردي من الشخص الجاني والذي ينتقم منه الشخص الذي وقع عليه الأذى والفعل بكل الوسائل التي تتوفر لديه وتختلف تلك الوسائل باختلاف قوة ذلك الشخص ومكانته مقابل الشخص المقابل له .وقد يكون بين جماعة او عدة أشخاص كالأسرة او غيره مع مجموعة أخرى يأخذ فيه القوي حق الضعيف وترى في ذلك تلذذاً ونصراً فردياً او جماعياً، وبعد ذلك جاء عصر التكفير الديني والذي نشأ بنشوء العقائد الدينية لدى الجماعات فأصبحت العقوبة تفرض على أساس تلك العقائد من خلال التعاليم التي يحددها ذلك الدين او رجاله ، فكل الأديان سواء القديمة منها والتي كانت تتمثل بالالهه والسحر والشعوذة وحتى الأديان السماوية اللاحقة كانت تضع عقوبات على كل فرد ينتهك قواعدها العامة واختلفت تلك العقوبات باختلاف تلك المعتقدات فكانت كل جماعة تسن قوانينها وعقوباتها حسب معتقداتها الدينية.

وبتوسع المجتمعات ونشوء الدولة بمفهومها السلطوي على المجتمع بدأ سن القوانين التي كانت تعد بمثابة قواعد عامة للمجتمع تنظم شؤون الحياة في ذلك المجتمع وتضع عقوبات على كل من ينحرف عن تلك القواعد الاجتماعية العامة مثل القانون الروماني والقانون الصيني . ولكن سمة التشابه بين تلك المراحل هو قسوة العقوبة التي كانت غالباً الإعدام او التعذيب البدني او النفي او غيرها من أنواع القصاص الذي يحل اكبر قدر ممكن من الأذى في سبيل ردع المجرم او غيره من خرق تلك القوانين فضلا عن اخذ حق المجتمع من ذلك المجرم ، وقد وصل هذا الأمر ذروته في القرون الوسطى ولاسيما في أوربا . لتبدأ دعوات الإصلاح الاجتماعي والقانوني في بداية القرن الثالث عشر والتي اخذ فلاسفة وكتاب تلك المرحلة بالمناداة بضرورة إصلاح النظام العقابي والتنديد بالقسوة والمغالاة في العقوبة مثل (مونتسكيو) في كتابه (روح القوانين) الذي حمل فيه على قسوة العقوبات وعدم جدواها في اصلاح المجرمين وكذلك كتاب العقد الاجتماعي لجان جاك روسو. لينشأ عصر الدعوة نحو الإصلاح وبعد قيام الثورة الفرنسية أصبحت تلك الدعوات سمة بارزة في نشوء مراحل جديدة كانت الأساس في إصلاح النظام العقابي. ولأهمية هذه المراحل التي أخذت شكل مدارس علمية تصدرها باحثون وكتاب في العلوم الإنسانية والجنائية والتي كانت أهم الأسباب في تطوير النظام الإصلاحي من الناحية النظرية والعلمية ,سيحاول الباحث الاشارة اليها من باب التسلسل التطوري للحركة الإصلاحية دون الدخول في تفاصيلها.

مرحلة الاتجاه الأول وسمي أصحابها بالمدرسة التقليدية الأولى التي نشأت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ومن روادها ( بكاريا)وكتابه الجرائم والعقوبات في إيطاليا و(بنتام) في إنكلترا و(فيدرباخ) في ألمانيا وقد نادت هذه المدرسة بمبدأ العدالة المطلقة من خلال الردع العام وجعل مقياس العقوبة هو جسامة الجريمة ومساواة كل المجرمين أمام القانون ولكن هذه المدرسة أغفلت شخصية المجرم فقد نظرت إليه من خلال الجريمة المجردة دون البحث في ظروفه الخاصة او دوافعه وبذلك ابتعدت عن مبدأ الإصلاح في العقوبة على الرغم من مقاومتها لمبدأ القسوة والتعذيب في العقوبة..

اما الاتجاه الثاني فقد نشأ في النصف الأول من القرن التاسع عشر ومن رواده (جيزو) في فرنسا و(هوس) في بلجيكا و(كرارا) في ايطاليا وسميت بالمدرسة التقليدية الثانية وغرض العقوبة في تعاليم هذه المدرسة هو تحقيق العدالة والردع العام وذلك على أساس فكرتي العدالة والمنفعة معا، بمعنى ان العقوبة يجب ان لاتكون اكثر مما تسبغه العدالة ولا اكثر مما تستلزمه العقوبة وهذه المدرسة أعطت لشخصية المجرم وواقعه اعتباراً في نوع العقوبة ولكن على الرغم من ذلك يؤخذ عليها التوسع في نطاق الظروف المخففة للعقوبة لدرجة لا تتيح الإصلاح والتأهيل من خلال العقوبات قصيرة الأمد.

ثم جاءت المدرسة الوضعية الايطالية وسميت بالواقعية ونشأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومن روادها لومبروزو وكتابه الإنسان المجرم و(رافائيل جاروفولو) و(فيري) والتي جعلت من الشخص الجاني مصدراً للجريمة كونها مفروضة عليه اما من خلال عوامل داخلية سببها العوامل البايولوجية للشخص المجرم او بعوامل خارجية كالظروف الاجتماعية التي تؤدي به إلى حتمية الفعل الإجرامي ولذلك كانت ترى في إصلاح المجرمين امراً صعباً وهذا هو المأخذ على هذه المدرسة علـى الرغم مـن ابتكارها للتدابير الاحترازية التي أصبحت فيما بعد سمة بارزة في سياسة الجنائية الحديثة والتي تستهدف إلى حماية المجتمع من شخصية المجرم قبل وبعد ارتكابه الفعل الإجرامي .

اما المرحلة اللاحقة والتي سميت بمرحلة الاتحاد القانوني للعقوبات والذي نشأ أواخر القرن السابع عشر ومن رواده (فان هامل) في هولندا و (ادولف برنز) في بلجيكا ( وفرانز فون ليست) في ألمانيا ومن أهم مبادئ تلك المرحلة الاعتراف بالعقوبة كوسيلة تقليدية للجزاء الجنائي في تحقيق الردع العام والاهتمام بالتفريد التنفيذي لها وفقاً لشخصية المجرم على أساس تصنيفهم إلى مجرمين بالطبيعة ومجرمون بالصدفة وهذا معناه مراعاة الظروف الشخصية في العقوبة كونها الأساس الذي يحدد نوع تلك العقوبة وشدتها .

ثم ظهر اتجاه الدفاع الاجتماعي والذي مثله كل من ( مارك انسل ) و ( جراماتيكا ) الذي أكد على الطابع القانوني للنظام الجزائي والذي عد العقوبة وسيلة لاعادة تأهيل المجرم وتقويمه وعودته إلى المجتمع كعضو نافع بما ينسجم مع كفالة احترام الحقوق والحريات ومع التسليم بمبدأ المسؤولية القائمة على حرية الاختيار وتأمين كافة الضمانات القضائية اللازمة . كما دعا إلى اتخاذ تدابير معينة بدل العقوبة سواء كانت سابقة او لاحقة لوقوع الجريمة في ضوء احترام مبادئ الشرعية والحرية .

قد كان لهذه الأفكار الأثر البالغ في تحول السياسة الجنائية نحو المذنب من مبدأ العقاب الصرف إلى مبدأ العقاب المقترن بالتأهيل الاجتماعي لإصلاح الجاني و أعادته إلى المجتمع وقد عرفت تلك الأفكار طريقاً إلى التشريع القانوني وفي تعديل ما يعرف بين الفقهاء القانونين بسياسة التجريم المتمثلة في مقابلة الفعل الجرمي بما يلائمه من العقوبات والتدابير ، وتلك السياسة هي الركن الأول في السياسة الجنائية الذي يضم أيضاً السياسية العقابية والوقاية من الجريمة . في نفس الوقت الذي كانت فيه الأفكار تتصارع من اجل إصلاح النظام القانوني واستحداث تشريعات اكثر ملاءمة مع الأفكار العلمية التي مالت إلى الإصلاح والعلاج . كانت السجون تشهد هي الأخرى إصلاحات في نظامها الداخلي وطرق وأساليب معاملة المسجونين متأثرة بتلك الأفكار تارة ومستحدثه من قبل إصلاحيين عملوا في السجون تارة أخرى وقد كان لتلك الإصلاحات دورٌ بارزٌ في إكمال الصورة الاصلاحية بشقيها التشريعي والتنفيذي والذي أخذت إصلاحات السجون دورها فيه . وقد ظهرت حركة الإصلاح كوظيفة أساسية للسجون في النصف الأول من القرن التاسع عشر ،التي استمرت بالتطور تبعاً لتطور العلوم الاجتماعية والجنائية التي كان لها الأثر ليس فقط على فلسفة القانون الجنائي بل في وظيفة السجون وطبيعتها وخصائصها حتى أصبحت سجون اليوم إصلاحيات ومؤسسات للإصلاح المجرمين والمنحرفين تتوخى البرامج ووسائل الضبط و إعادة التنشئة للمجرمين والمنحرفين بالطرق العلمية من خلال التدريب والعلاج و الإرشاد وقد مرت أيضاً بمراحل تطورية .

لقد كانت البداية من مؤتمر السجون العالمي في مدينة سنسناتي في أمريكا سنة 1870م والذي تبنى مجموعة من البنود المؤكدة على إدخال النظم الإصلاحية في السجون ، وقد طبقت بعض هذه النظم في مؤسسة (الميره ) فيما بعد مثل تصنف السجناء ونظام الدرجات حسب السلوك وإدخال برامج التدريب المهني والرياضي ، على الرغم من ان النظام الايرلندي 1854 والذي نشأ قبل مؤتمر سنسناتي قد تبنى نوعاً خاصاً من الإصلاح يعتمد على تقسيم مدة السجن إلى مراحل تهدف إلى لإصلاح السجناء من خلال التزامهم بعبور تلك المراحل للخروج من الحبس و إطلاق سراحهم او تحديد وضعهم في السجن . وقد نشأ نظام بورستال في بريطانيا الذي تحول فيما بعد إلى قانون بروستال 1908 والذي قام على مبدأ العلاج أثناء الإقامة في المؤسسة وبعد مغادرة المؤسسة أي العناية اللاحقة والذي حول هذا النظام فيما بعد إلى معاهد خاصة للرعاية والتدريب و الإصلاح . ونظام بنسلفانيا الذي اخذ منذ عام 1790-1829 م في الدخول إلى عالم الإصلاحات من خلال سجن ولاية فلادليفيا الأمريكية من خلال اعتماد مبدأ عزل السجناء حسب العقوبات و إبدال العقوبات البدنية بالعمل المنتج وتخفيض الآلام الجسمية عن المساجين . اما نظام اوبيرن 1819 في ولاية نيويورك الأمريكية فقد قام على عكس نظام بنسلفانيا في تجميع المساجين والعمل في النجارة وفي معامل الصناعة على ان يتم العزل ليلاً بدون السماح بالاتصال بين السجناء . وعلى الرغم من محاسن ومساوئ تلك السجون إلا انها كانت تمثل البدايات الأولى في التفكير في طرق الإصلاح والعلاج داخل السجن .

وقد كان لهذه الاصلاحات اثر في تكوين مؤسسات خاصة بالإحداث المنحرفين بدأت في مدينة نيويورك سنة 1825م ثم استمر افتتاح المؤسسات الخاصة بالإحداث لتصل إلى 66 مؤسسة في عام 1900م وقد أقر ان تلك المؤسسات هي مدارس وليست مؤسسات عقابية فالأطفال يعملون ويعالجون ولا يعاقبون فهم يتلقون التعليم الديني والأكاديمي وهناك تطبيق للإحكام غير المحددة المدة والإفراج على أساس السلوك الحسن ، وعلى الرغم من ذلك فان تلك المؤسسات كانت تعد سجوناً من نوع خاص تهدف بالدرجة الأساس إلى إبعاد الإحداث في أماكن منعزلة عن المجرمين الكبار وكانت تخضع للإدارات الخاصة التي كانت تهتم بالكسب المادي في أول إلامر فنظام الزنزانات كان موجوداً كما انه ليس هناك نظام لتحديد العقوبة على أساس الجرم .

الصفحات