أنت هنا

قراءة كتاب وللحج مقاصد لو نجتهد لتلبيتها

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
وللحج مقاصد لو نجتهد لتلبيتها

وللحج مقاصد لو نجتهد لتلبيتها

كتاب " وللحج مقاصد لو نجتهد لتلبيتها " ، تأليف محمد عدنان سالم ، والذي صدر عن دار الف

تقييمك:
4.66665
Average: 4.7 (3 votes)
الصفحة رقم: 2

تهفو نفسي إلى رؤية غار جبل ثور الذي ضم الرسول الكريم وأبا بكر الصديق مهاجريْن إلى المدينة {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 9/40] يُغشي أبصار قريش، وهي تقف على باب الغار، ولو أن أحدهم نظر إلى قدميه لرآهما..

أتوق لرؤية ساحات المعارك الظافرة التي خاضها الرسول في سبيل إرساء أسس العقيدة في بدر وأحد والخندق والحديبية وخيبر..

أريد أن أقرأ السيرة العطرة على الأرض..

كنت أنظر إلى الشاب البوسني يتحدث بحرقة، وكنت في الوقت ذاته أجتر ذكريات حجي الأول قبل أكثر من ثلاثين عاماً، وكنت يومها في مثل سنه وانفعالاته المستعرة، لم ترُق لي الزيارات الساذجة التي كان ينظمها أدلاء جهلاء، يقفون على أبواب الحرم، يتصيدون الحجاج، مستغلين غربة بلادهم ولسانهم، ليقلّوهم إلى أماكن لا تنطق، ويحدثوهم بما لا طائل وراءه مقابل دريهمات.

حدثته عن بعض مشاعري آنذاك، أشعرته بموافقتي التامة على انطباعاته، حدثته عن المدينة المنورة التي زرتها من قبلُ، وسكنت حواريها وأزقتها، وشربت لبن منائح الجيران من أهلها يصبحوننا به من غير مقابل؛ قِرىً للضيف ووفاءً بحق الجوار، وكنت أخفف الوطء على أرض المدينة؛ شعوراً غامراً أحسه في أعماقي بأن أقدام الرسول الكريم وأصحابه قد وطئتها، وأنها شهدت مجالسهم، وأنصتت إلى محاوراتهم مع النبي المصطفى، ومجادلتهم المنافقين والمرجفين والكفرة المعاندين، ورصدَت غدر اليهود ونقضهم العهود، وامتزجت بدماء المؤمنين الذائدين عن حياض الدين، في حومة المعارك التي خاضوها مع المشركين، وسجلت وجفات قلوب المؤمنين، وتثبيت النبي لهم، يحفر معهم الخندق يوم تداعت الأحزاب على المدينة لاستئصال شأفة الإسلام، فإذا به يذهب بهم بعيداً بعيداً- وهم في أشد حالات الضيق- يقول كلما انقدح شرر من معوله وهو يهوي به على صخرة:" أعطيت مفاتح الشام، أعطيت مفاتح فارس..".

لم أشأ أن أوئسه أو أصدمه بواقع مرير، يشير إلى أن حالة التخلف وضعف الفعالية التي تعاني منها الأمة الإسلامية، تحول دون تحقيق تغييرات ثقافية واجتماعية كبيرة، بالسرعة ذاتها التي يمكن بها تحقيق إنجازات عمرانية ومادية، فللتغيير الثقافي شروط دقيقة، نفسية واجتماعية يجب توفيرها أولاً، قبل الدخول في عملية التغيير.. اكتفيت بأن نقلت له انطباعاً عدتُ به إلى أصدقائي وأهلي من حجي الأول، يتلخص في أني لاحظت في رحلتي البون الشاسع بين عظمة النظام والمنهج الإسلامي، وعجز المسلمين - إلى حد الكلالة- عن تطبيقه.

ثم نادى المؤذن للصلاة فغاص رفيقي الشاب البوسني في زحام الصفوف المتراصة، وغصت في أعماقي وذكرياتي وهمومي، وقد أوشكَت أيام المدينة الساكنة الهادئة الممتعة على الانتهاء، وبدأ الاستعداد لمكة بشعائرها ومشاعرها المتتابعة، التي لا تتيح لك فرصة لأي استرخاء قد يكون سبباً في ضياع عملك كله.

* * *

التجردُ من (الأنا)؛ من الشخصية والخصوصية والانتماء العائلي، والدرجات العلمية والمراتب الوظيفية؛ أول إجراءات الانخراط في (دورة الحج): فوثائق سفر الحج تؤخذ من الحاج، وتستبدل بها أرقام تكتب على سوار بلاستيكي، يضعه الحاج في يده، يتم التعامل معه على أساسه، إلى أن ينهي دورته ويسترد جوازه.. بذلك يتحول الحاج إلى رقم يُستدل به عليه، وعليه أن ينسى اسمه ومراتبه كلها.

والتجردُ من اللباس والرياش ومستلزمات الأناقة ثاني الإجراءات، وهو (الإحرام)، فعلى الحاج أن يخلع كل مخيط فيودعه في حقائبه، ويستبدل به إزاراً ورداءً أبيضين ونعلاً بسيطاً يتوحد بذلك مع سائر إخوانه الحجاج، من كل حدب وصوب وجنس ولون ولسان، فلا فوارق هنا، ولا امتيازات، ولن تميز في الحجيج أميراً من فقير، وسيداً من حقير؛ الكل بين يدي الله، يجأر إليه بدعاء واحد؛ كلهم يطلب المغفرة، ويرجو رحمة ربه، ويعلن عبوديته وخضوعه إليه.

هكذا، يتجرد الحاج من متاع الحياة الدنيا وزينتها وكل أسباب التفاخر والتفاوت، فيصبح مؤهلاً لا تباع الدورة

التي تأتي أعمالها متلاحقة، وبرامجها مكثفة، يأخذ بعضها برقاب بعض، ويدعم بعضها بعضاً، لتأكيد الوحدة الإنسانية وترسيخ المبادئ السامية التي أرست قواعدها مدرسة الأنبياء، في منهجية موحدة منذ تأسيسها على يد أبي الأنبياء إبراهيم، حتى خاتم الأنبياء سيد المرسلين محمد .

مناسكُ الحج جميعها تؤكد للحاج وحدة الرسالات السماوية؛ السعيُ بين الصفا والمروة، والطواف بالبيت العتيق، واستلام الحجر الأسود، ومقامُ إبراهيم، وحِجر إسماعيل، وعرفة، ومزدلفة، ومنى، وجمعُ الحصى، ورمي الجمار، وعيد الأضحى الذي يمثل احتفال التخرج لدفعة جديدة من الحجاج حملة الرسالة.. كل أولئك يُذكره بأنبياء الله ورسالاتهم، لا يفرق بين أحد منهم بدءاً بأبيهم إبراهيم وانتهاء بخاتمهم محمد بن عبد الله الذي جمعت رسالته الخاتمة الرسالات كلها، وتوحدت بها الأديان كلها.

لا أعرف أمة في الدنيا،ولا ديانة، ولا مذهباً، اجتمع لها من الرموز الفكرية العميقة والمبادئ الإنسانية الشاملة، على صعيد واحد وفي مدرسة واحدة، خلال فترة قصيرة واحدة، مثل الذي يجتمع للمسلمين في موسم الحج.

لا أعرف موسماً متجدداً أبقى في تاريخ البشرية وأكثر قدرة على الاستمرار والتجدد والتطور والنماء والعطاء والشمول الإنساني كموسم الحج..

مَن مِن الأمم مجَّد الأمومة، كما مجَّدها الإسلام في السعي بين الصفا والمروة، مخلداً ذكرى لوْبَةِ هاجر بينهما بحثاً عن قطرة ماءٍ لرضيعها إسماعيل، فانبجست لأم إسماعيل (زمزم) نبعاً غزيراً لا ينضب، يسقي الملايين من الحجاج، وممن ينتظر أوْبة الحجاج بها في أصقاع العالم؟!

أيٌّ غير الإسلام آخى بين جميع أنبياء الله، وعلق إيمان المرء على إيمانه بهم جميعاً {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 3/84] ، وجسد ذلك في مناسك الحج، يبدأ الحاج طوافه من الحجر الأسود، مستلماً إياه أو مشيراً إليه، وينهيه بركعتين خلف مقام إبراهيم، ماراً في كل طوفة بحجر إسماعيل؟!

الصفحات