أنت هنا

قراءة كتاب الغربة والتغرب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الغربة  والتغرب

الغربة والتغرب

كتاب " الغربة والتغرب "، تأليف محمد عمر أمطوش ، والذي صدر عن مؤسسة الرحاب الحديثة للنشر والتوزيع .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 1

توطئة

غالباً ما تـرتبط مدينة شيكاجو الأمريكية في ذهن الكثـيرين منا بالعنف الحضري ومنظمات الإجرام وأفلام المافيا والرعب وغـير ذلك من الصور الرهيبة. وطبعاً، فتاريخ المدينة وتكونها وتشكلها يفسر في كثـير من الجوانب طغيان هذه الصورة. فمدينة شيكاجو إحدى كبريات مدن الولايات المتحدة هي ملتقى عديد من خطوط شبكات نقل وهي مدينة صناعية كما أنها مدينة فلاحية (أكـبر بورصة فلاحية)؛ عرفت في تاريخها تطوراً سريعاً وتوسعاً مدهشاً وشهدت استقرار موجهات هجرة عديدة مع ما يتـرتب عن ذلك من إشكاليات التـبني والانصهار والاندماج في بوتقة حضرية جامعة، ناهيك عن قضايا المـيز والصراعات بين الساكنة الجديدة والأقدم منها؛ مدينة بتفردها أصبحت مختـبراً اجتماعياً حياً فيه تدرس على بساط الواقع التفاعلات الاجتماعية والحركات الاجتماعية بل وكيف تتكون المدينة ذاتها وتتشكل كهيلكة حضرية ومنظومة اجتماعية تتعايش فيها مختلف الفئات والأهواء والأجناس والثقافات، بتلخيص شديد البيئة الحضرية كعلم مستقل.

إذا كانت الغالبية تعرف شيكاجو بحركات المافيا فقلة قليلة في عالمنا العربي سمعت بمدرسة شيكاجو، بل الأحسن مدارس شيكاجو أو ما عرف تحت هذا المسمى. نسمع عن مدرسة شيكاجو الاقتصادية[1] أو مدرسة شيكاجو المعمارية[2] أو الجغرافية؛ وهي لا تهمنا هنا. ما يهمنا بالذات في موضوعنا هنا هو مدرسة شيكاجو الاجتماعية وهي بالأحرى تيارات ومدارس. أولاها اهتمت بدراسة العلاقات بين الفئات والأعراق والأجناس (إشكالية الهجرة) وإشكالية الغرابة والقرابة وكذا قضايا الجنوح والجريمة وإشكالية العزلة والتهمش في المدن الأمريكية الكبـيرة والـتي اعتـبرتها كمختـبر لدراسة التحولات في الوسط الحضري.

ومن أبرز ممثليها فولوريان زنانيشكي (1882-1958) Florian Znaniecki[3] وليام إسحاق توماس (1863-1947) Thomas وروبرت إزرا بارك (1864-1944) Park. وإرنيست واتسون بورجيس (1886-1966). Ernest Watson Burgess لويس وورث (1987-1952) Louis Wirth. ويمكن اعتبار صدور "كتاب الفلاح البولندي" لتوماس وزنانيشكي تاريخاً لمولد مدرسة شيكاجو الاجتماعية.

أما المدرسة الثانية وما تلاها، بعد عام 1940 تقريباً، فقد اهتمت بالمؤسسة والوسط المـهني وعرفت باستغلالها إلى جانب الطرق الكمية والنوعية للمعطيات التاريخية والحياتية للفئات موضوع الدراسات، أي ما نطلق عليه "الملاحظة/المعاينة التشاركية" الـتي استلهمتها من نهـج الأجناسية[4]. ومكنتها هذه المنهجية من فهم ما يصبغه الممثلون[5] الاجتماعيون من دلالة على الظروف الـتي يعيشونها. ومن أبرز ممثلي هذا التيار إرفين جوفمان (1922-1982) Erving Goffman وأنسليم ستـراوش Anslem Strauss (1916- 1996) وإيفريت هوجس (1897- 1983) Evrett Hughes وهوارد بيكر Howard Becker وغيرهم.

ويستحسن، بل يفضل الرجوع لمن يود الاضطلاع بتفصيل أدق على هذه المدرسة ومواضيعها المتعددة وغناها، إلى مصدر واف عنها وما أكثرها باللغات الغربية وانعدامها في لغة العرب. لأن موضوعنا ليس هذه المدرسة في شمولية تاريخها وامتداداتها فذلك موضوع كتب مستقلة.

من كل هذا الزخم يهمنا لموضوعنا اسم واحد هو "إرفين جوفمان". هو لسانيّ وعالم اجتماع كندي الأصل وإن قضى جل سنوات بحثه في جامعة شيكاجو. وكان إلى جانب هوارد بيكرمن أبرز ممثلي التجديد في مدرسة شيكاجو. كان تلميذا لراي برودويستيل[6] Ray Birwhistell وإيفريت هوجس. اعتمدت أبحاثه على معاينة ومشاركة ميدانية للفئات الـتي درسها كفلاحي جزر الشيتلاند شمال اسكتلندا حيث قضى سنة ودرس حياتهم اليومية في أطروحته[7] حول ’السلوك التواصلي وسط ساكنة جزر‘ (1953). هذا الميل نحو المعايشة الميدانية دفعه لقضاء أشهر وسط مرضى عقليين ليكتب كتابه المشهور "مصحات[8]" (1961). عارضا فيه فكرة مفهوم "المؤسسة الكلية[9]"، وفي عام (1964) نشر كتابه "وصمة[10]".

بعد ذلك ركز جوفمان أبحاثه ليس على الفرد بل على التفاعل مستعينا بالوصف المجازي ومشبها الأشخاص خلال تفاعل وكأنهم ممثلون يؤدون دورا في مسرحية. وذلك في أبحاثه:"تقديم الذات في الحياة اليومية" و"مراسيم التفاعل"[11]. واستلهاما من الفن السينمائي نشر عام 1974 كتابه "إطارات التجربة"[12] حيث وُصفت الحياة كمكوَّنة من عديد من تشكيلات الحقيقة والتأطيرات المتـرتبطة فيما بينها.

تمـيز جوفمان في وسط مدرسة شيكاجو بابتعاده عن الطرق الكمية والإحصائية مفضلا الملاحظة التشاركية[13] وهكذا قضى سنتين في معاينة وملاحظة المصحات على الميدان. واقتـرب من التيار الداعي إلى "منهج أجناسي" و"التفاعلية الرمزية" ولو أنه لا يدعي انتماءه لهذا التيار الأخـير. يصعب ربطه بتيار "التفاعلية الرمزية"[14] [15] لأن أبحاث جوفمان لا تختزل فقط إلى التحليل التفاعلي لأن، حسبه، التفاعل الاجتماعي يتحكم فيه الانشغال بعدم فقدان ماء الوجه مع أنه يعير اعتبارا كبـيراً لمركزية التفاعلات في منظومته الفكرية.

سنتوقف هنا لحظة. بالتأكيد فإن القارئ أو بالأحرى الطالب العربي المهتم بعلم الاجتماع يكون قد سمع بجوفمان وقد أحيط اسمه بهالة من الألقاب والصفات كعادة بعض كتابنا، إذ تكفي نقرة على باب الشيخ جوجل للتأكد من أن اسمه متواتـر على صفحات المنتديات العربية. نعم يشار إلى جوفمان في منشورات جامعية ويكتب عنه فهو علم لا مفر منه. ولكن ما نلاحظه هو غيبة نصوصه، يعـني أن القارئ العربي لا يعرف جوفمان إلا من خلال مصادر ثانوية ومحل المصادر الثانوية من الإعراب يختلف عن رتبة الأصلية (بلغتها أم متـرجمة تـرجمة وافية) فهي قراءة من بين القراءات قد تكون موفقة أو ناقصة ولا تمثل النص الأصلي والفكرة الأصلية. وهذا عيب المصادر الثانوية. بل أن مهزلة عالمنا العربي أننا لا نكتفي بالمصادر الثانوية بل اختلقنا مصادر ثالثة: نقلاً عن نقل عن نقل أو قل ملخصاً لمخلص لملخص. نقل وتأويل تغيب معه فكرة الكاتب الأصلية في مزايدة بلاغية ينمحي معها أي أثر للعلمية والمنهج العلـمي. لا يهم الطالب الجامعي ما قاله أستاذه عن جوفمان نقلاً عما سمع الأخـير من تأويل أستاذه الذي من حظه أنه فتح يوماً كتاباً بلغة إنجليزية عن جوفمان أو لجوفمان إذا كان مجداً ساهراً (الطالب العادي بالطبع يجهل اللغة الأصلية مثله كباقي طلاب العالم من صينيين وفرنسيين[16]).

هذه المصادر الأصلية هي الـتي تنقص الطالب الذي يبتغي علماً جامعياً. ووجودها هو مقياس جدي لمستوى البحث العلمي عندنا.

وهذا المطلب ليس سهل المنال فهو جهد جماعات وربما أجيال. إلا أنه عملاً بمقولة ’كل وطاقته‘ نقدم نتفاً من هذه المصادر في كليتها. آملين أن تتكامل الجهود لملأ هذا الفراغ الرهيب هادفين من ذلك خدمة هذه اللغة وقراءها.

ونقدم هنا ليس كتابا لجوفمان بالذات ولكن كتاباً تطبيقياً من عمل زميل وطالب لجوفمان ومتـرجم قدير لجوفمان إلى الفرنسية. وبالطبع ما جاء من مقولات في الكتاب الذي هو عبارة عن دروس تطبيقية لا يعـبر بالضرورة عن مواقف جوفمان، هي تأويل أحد أعرف الناس بكتاباته. مع الأمل أن نقدم للقارئ العربي كتاباً لجوفمان في القريب العاجل بعد أن قدمنا نصوصاً قصيرة له في أماكن أخرى[17].

نقدمه نقلَ مـعنى لا حرفاً ونقلاً محوراً ـ مع تحملنا لكامل ما يتـرتب عن التحوير- ليلائم قارئنا العربي بما يفيده ويفتح عينه على بعض ما يستجد من بحث في الضفاف البعيدة وزدنا إلى النص توضيحات وهوامش كثـيرة ليُنتفع بها،آميلين بذلك خدمته وخدمة المكتبة العربية.

الصفحات