كتاب : خطاب أدب الرحلات في القرن الرابع الهجري " ، تأليف د. نهلة الشقران ، والذي صدر عن دار الآن ناشرون وموزعون .
قراءة كتاب خطاب أدب الرحلات في القرن الرابع الهجري
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
خطاب أدب الرحلات في القرن الرابع الهجري
الفصل الأول
الرحلات في القرن الرابع الهجري
دواعي الرحلة
عاش العربُ في بيئة صحراوية، تحنو عليهم حيناً، وتقسو عليهم أحياناً، فتضطرهم إلى الترحال والتنقُّل المستمر، فأوجد هذا الأمر في أنفسهم ميلاً إلى البحث الدائم بأشكاله المختلفة، كالبحث عن الكلأ، والمرعى، والأهل، واللغة، والمال، وغير ذلك. فَألِفوا الترحالَ واعتادوه، وأصبح بذلك استقراراً لهم ومنهجَ حياة.
عرف العربُ، إثر ذلك، الطُّرقَ البرية والبحرية في مناطقَ متعدِّدة، فسهَّل عليهم الأمر الاشتغال بالتجارة كرحلة قريش وغيرها من القبائل في الجزيرة العربية، صيفاً وشتاء، إلى بلاد الشام واليمن، وكان لهذا النشاط التجاري أثره النفسي، علاوةً على أثره المادي، ويتجلَّى هذا الأثر في مسلكيْن مهمَّيْن هما:
- الاطِّلاع على ثقافات الآخرين، وعلاقاتهم الإنسانية، ووصفها، ومقارنتها، وانتقادها.
- رسم مخطَّط عمراني في مخيلة المتنقِّل لما شاهد أثناء تنقُّله، سواء أقصد ذلك أم لا.
ومن الطبيعي أن ينعكس الأثر النفسي-بمسلكيه- على المجتمع العربي كلِّه شغفاً بنقل التأثُّر بالبلدان وأهلها من جهة، والاعتداد بالثقافات الجديدة التي حصل عليها المتنقِّل من جهة أخرى.
أصبح المتنقِّلُ مُحمَّلاً بالأخبار والمعلومات الوفيرة في مجالات متعدَّدة، منها الطريف والغريب، ومنها التاريخي والجغرافي، ومنها «المتوحِّش والشَّاذ عن قوانين الطبيعة، فأخذ يصبح تدريجياً مدارَ تأمُّل أعمق ومقارنة بين الشعوب»( ). من هذا التصوُّر بدأ التوجُّه إلى الرحلات، والنظر إليها شيئاً مستقلاً له طابعه الخاص.
ظهرت، إذن، ملامحُ الرحلات، بغضِّ النظر عن أهدافها، وعَظُم شأنُ العربي المتنقِّل، واتَّصل بالعالم من حوله إثر التوسُّع السياسي، وانتشار العرب في مناطق بعيدة، فكان لهذا
التوسُّع «أثر بالغ في السياحة، واتِّخاذها وسيلةً للدراسة والوقوف على ما في تلك المناطق من عجائب وغرائب»( )، ومما لا شكَّ فيه أن التوسُّعَ السِّياسي تأثَّر بمجيء الإسلام وانتشاره في مختلف بقاع العالم.
ظهر الفكرُ الإسلامي، وأثَّر بالرحلة، فكان داعياً قوياً من دواعيها، وأسهمت الفتوحات الإسلاميَّة في انتشارها مع انتشار رقعة الدولة الإسلاميَّة، فخرج العربُ من جزيرتهم وطافوا بأركان العالم الوسيط، في آسيا وإفريقيا، واتَّسعت آفاقُ تنقُّلاتهم، وكَثُرت مشاهداتهم، فأدَّى ذلك إلى تنمية الفطرة العربية على التنقُّل، وتبلور هذا الحسُّ متَّخذاً نسقاً خاصاً، وأصبح طريقاً يُحتذى حذوها، يضيف إليه كلُّ متَّبعٍ له معلماً حتى تكتمل صورته.
نشأت الرحلاتُ وتعدَّدت أشكالها في ظلِّ «الأمن والطمأنينة في ديار المسلمين، وفرض النظام في ربوعها، وإشاعة هيبة الدولة في ما وراء هذه الديار، في أنحاء واسعة من جزيرة العرب»( )، فكان هذا أهم دعم تطلبه الرحلة، دون النظر إليها، إن كانت هادفة أم هاجسة تُسيِّرها نزعة ذاتية خاصة.
بناءً على ما سبق، سنُجمل تأثير الفكر الإسلامي في نشوء الرحلات في العوامل الآتية:
أولاً: اهتمَّ الإسلام بالعلم، وحثَّ على طلبه( )، إذْ بعدما توسَّعت الدولة الإسلامية بشكل سريع، وتعدَّدت أقاليمُها المناخية والتضاريسية، اتجه المسلمون، إثر ذلك، يطلبون علوم الدين والدنيا مهما بَعُدت المسافات.
فما وجدوا أنفسهم إلَّا وجهاً لوجهٍ أمام الرحلة، فلم يُسجِّلوا العلم في مدوَّناتهم وحسب، بل سجَّلوا أيضاً سيرَ طرقهم، وما واجهوه من طبيعة وطبائع، وحفظت الذاكرة المكان، وما يتعلَّق به قبل العلم المبتغى.