كتاب : خطاب أدب الرحلات في القرن الرابع الهجري " ، تأليف د. نهلة الشقران ، والذي صدر عن دار الآن ناشرون وموزعون .
قراءة كتاب خطاب أدب الرحلات في القرن الرابع الهجري
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
خطاب أدب الرحلات في القرن الرابع الهجري
ثانياً: اتجه المسلمون لتأدية فريضة الحج من شتى بقاع العالم، فوصفوا طرق الحجاز ومسالكها ومخاطرها( )، وأكثروا من وصف المقدَّسات الإسلاميَّة.. والحقيقة أن الأراضي المقدسة حظيت باهتمام الجغرافيين أكثر من غيرها( )، نظراً لتعلُّقها الديني والروحي بشخص الرحَّالة.
ثالثاً: حثَّ الإسلام على السياحة لأسباب متعددة، مثل التأمُّل في المخلوقات، والاتِّعاظ من آثار الأمم البائدة، والتعرُّف على المظاهر الكونيَّة المختلفة. ولم يشجِّع الإسلامُ على السِّياحةِ فحسب، بل سهَّل على المسافرين العبادات، كالصوم والصلاة ( )، فجعلهم يقبلون على الأمر بيُسرٍ وسهولة.
رابعاً: أصبح للرحلة بعد نشوء الإسلام ضرورة سياسية وعسكرية، فاتِّساع أطرافها وامتدادها، من حدود الصين شرقاً إلى شواطئ المحيط الأطلسي غرباً، أوجب على ذوي الأمر احتياجَهم للرحَّالة، ومن اعتاد السفر، وألِفَ الطُّرقَ من أجل معرفة أخبار الأقاليم الخاضعة لهم على وجه السرعة؛ «لذلك عنيت الدولة بنظام البريد، فمهَّدت الطُّرقَ له، وشيَّدت المحطَّات، وأقامت على الطُّرقِ معالمَ تبيِّن المسافات»( )، حيث تتصدَّى لنقل الرسائل، وتوصل التعليمات بين أرجاء الدولة وخارجها.
وسعت إلى تأمين استقرار وسلامة الحياة( )، فاتخذت الرحلات وسيلةً من وسائلها في ذلك بالاطِّلاع على الدول المحيطة من جهة، وبالتنقُّل المتواصل بين أطراف الدولة الواحدة لدرء الخطر وإحباطه من جهةٍ أخرى.
خامساً: أضاف الإسلامُ إلى قائمة الرحلات المتنوَّعة ما يُسمَّى برحلة السفارة، وهي
«رحلة المسؤولية والتكليف، ووضع التعليمات موضع التنفيذ أكثر من أيِّ شيء آخر، لمصلحة عامة مشروعة لحساب الإسلام والمسلمين، تعمل بموجب التكليف من ولي الأمر»( )، لنقل مبادئ الإسلام، وتعليم فرائضه من داخل الجزيرة العربية إلى خارجها( ).
نشأ هذا الصنف من الرحلات بأوامر رجال الحكم في الدول الإسلامية في العصور الوسطى للمفاوضة بين أقطارهم وأقطار أخرى أجنبية في مسائل تجارية أو حربية أو لإبرام معاهدات صُلح( ).
سادساً: عرفت الدولة الإسلامية النظام والإدارة وتشكيل الحكومة، وكان لها مدنيَّتها الخاصة، فلم تعد الصحراءُ هاجسَها الأول، بل أمسكت بزمام الانفتاح على العالم من حولها، والسعي وراء كلِّ ما هو جديد، فوظَّفت الرحلة في خدمة مبتغاها.. و«لأن الرحلةَ في البرِّ أو البحر بعيدة المدى، وتكلفتها عالية، والعائد منها ثمين، فلقد تحمَّلت الدولة وبعض أصحاب المصلحة مسؤوليات تمويل الرحلة، في مقابل تكليفها بأداء المهمَّة أو المهام المنوطة بها»( )، فازداد عدد الرحلات وكَثُر المرتحلون، بل ربما توجَّهوا على شكل فرق متخصِّصة من أصحاب الخبرة.
وأخيراً، مهَّد الإسلام طريق الرحلة، وأمَّن احتياجاته، ابتداءً من رحلات الفتوحات الإسلامية، وانتهاءً برحلات العصر الحديث التي سارت على نهج سابقيها، ووجدت به معيناً لا ينضب، فكان الداعي الأول لنشوء الرحلة.
أما الداعي الثاني للرحلة فيتمثَّل في نشوء علم الجغرافيا، والاهتمام به، فهل كانت الرحلة حسَّاً فطريّاً تفجَّر في الإنسان بإبصار الجغرافيا، أم أن علم الجغرافيا نشأ نتيجة الحسِّ الفطريِّ الذي أيقظته الرحلة؟
نعم، يبدو أن الرحلة وراء نشوء علم الجغرافيا، فحقَّقت هدفاً كبيراً من أهداف حركة الحياة على الأرض، فإن قَصُرت مسافاتها أو طالت جنى الإنسان ثمراتها وانتفع بها، ونقلت له ما شاء وما لم يشأ، وصوَّرت له أحداثاً ربما كان من الصعب عليه تخيُّلها، وجعلته يبصـرُ الكونَ من جديد بعين ترى الطبيعة رؤية متفحِّص، وترى الإنسانيَّة رؤية ناقد، وترى التاريخ رؤية مفكر.
كانت الملامح الجغرافية من الأسس المهمة التي قام عليها أدب الرحلة، لهذا وصف الرحَّالون المدن، والطرق، والأنهار، والبحار، والجبال، والمناخ، والطبيعة، وما إلى ذلك. في الوقت الذي نشأت فيه كتب جغرافية متخصِّصة، تسير وفق منهج علمي وطريق شبه موحَّد، يبعدها قليلاً عن الرحلة، ويجعلها ضمن مسلك جغرافي بحت.
رسم عالم الجغرافيا المكان وصوَّره أحسن التصاوير، وظهر علم الخرائط وسيلة مساندة له في هذا الأمر، أمَّا الرحَّالة فأعاد رسم جغرافية المكان بطابع ذاتي. فللجغرافي غايته العلمية في كشف الكون، وللرحَّالة غايات ذاتيَّة تحكمه، تجعله جغرافياً حيناً، وأديباً حيناً، وإنساناً أحياناً كثيرة.
الإنسان الذي وُلد راحلاً-كما يرى « شوقي ضيف»( )- أحبَّ الأرض، وأعطاها كي تعطيه، وشُغل بها وبخباياها، ليوظِّف حسَّه الفطري في التنقُّل، وحدسه الجغرافي الفطري في انتخاب الموطن واختياره.
إذن، فرحلة العربي الأولى من أجل التعايش انبعثت من تفحُّص جغرافي للمكان، وطاوعته، ومن ثمَّ عرفت اختيار الموطن الأنسب( ) في بيئة الجزيرة العربية الصحراوية. في الوقت نفسه كان لعلم الجغرافيا شأن خاص في الرحلة، فاصطحبته في طرقها المختلفة براً وبحراً، وفي تعدُّد المناخات التي عايشها، واستأنست به، وأوكلت إليه مهمة المعاينة والرؤية الفاحصة.
انتفعت الرحلة بالجغرافيا، ووجدت المعرفة الجغرافية وراء الرحلة معيناً زاخراً تتزوَّد منه( )، فطاف الجغرافيون بالعالم الإسلامي وغيره، وقيَّدوا مشاهداتهم، وما يقع تحت أبصارهم، واعتمدوا الرحلة في جمع معلوماتهم الجغرافية لحرصهم وأمانتهم، ووصفوا المسالك والممالك، ميدانياً، دون الاكتفاء بالنقل والرواية عن الآخرين إلَّا في مواضع قليلة، وظهرت طلائع المؤلفات الجغرافية في صدر الإسلام إثر التوسُّع السريع للدولة الإسلامية( )، وتعدُّد أقاليمها.
ظهر الإنتاج الشخصي في التأليف الجغرافي وتفرَّعت اتجاهاته الوصفيَّة والاجتماعيَّة والفلكيَّة والإقليميَّة، «وأصبحت المعرفة الجغرافيَّة في خدمة متطلبات الدولة الإسلاميَّة الكبرى، عسكرياً وإدارياً واقتصادياً»( ).
وفي القرن الرابع الهجري يظهر نضوج الفكر الجغرافي، ويبدو ذلك في رحلات هذا القرن وتميُّزها عن غيرها، إذ بلغ عدد الرحَّالة في هذا القرن ما لم يبلغه في غيره، «فأُتيح للمسلمين أن يحوزوا قصب السبق في ميدان الرحلات، والاكتشاف، والدراسات الجغرافية، وأفادت أوروبا مما كان عند المسلمين من علم بأجزاء العالم المعروفة في القرون الوسطى»( ).
و«ابتداءً من القرن الرابع الهجري تعدَّدت هذه الأسفار الاستكشافية، وازداد أفق الجغرافيين الوصفيين اتِّساعاً، كما ازدادت معلوماتهم دقَّة ووضوحاً»( )، فاهتم الجغرافيون بأقاليم العالم الإسلامي، ووصفوها في كتبهم، وظهرت خرائط «أطلس الإسلام» عند كلٍّ من: البلخي والاصطخري وابن حوقل والمقدسي، وسُميِّت بذلك لأنها تغطِّي أقاليم العالم الإسلامي بسلسلة من الخرائط التي تتماشى مع التقسيم الجغرافي الذي ابتدعه هؤلاء، مخالفين بذلك التقسيمات السابقة، فمَثَّل «أطلس الإسلام» قمَّة علم المصوّرات عند العرب( )،
وتعدَّدت مناهج وصف الرحلات إثر ذلك، لاتِّضاح تكامل الأنماط في المصنفات الجغرافية.
في هذا القرن اهتمَّ الجغرافيون المسلمون بوصف ما شاهدوه، فأدخلوا تقليداً جغرافياً جديداً في الكتابة الجغرافيَّة، وهو استخدام الخريطة مع المتن، لتوضيح التفصيلات الواردة فيه( )، وتظهر هذه المرحلة في كتب المسالك والممالك لابن حوقل والبلخي والاصطخري، فهم جغرافيون وصفيُّون أو رحَّالة علميُّون كما يرى شاكر خصباك( )، حقَّقت الرحلة لهم أشكالاً من التعامل والتعايش والاختلاط بالناس، علاوة على التفاصيل الجغرافيَّة الدقيقة. ويرى علي الدفَّاع أن هذه الرحلات أسفار للمعاينة الميدانيَّة( )، فهي دراسة علميَّة ميدانيَّة بطابع لغويٍّ أدبي.
«سار الجغرافيون المسلمون خطوات عظيمة، إلى حدِّ أنَّ مؤلفاتهم عُنِيَتْ بالجانب الثقافي، والأمور الاجتماعيَّة، ويبدو واضحاً فيها تقرير خطوط العرض والطول لأماكن عديدة، فضلاً عن تلك المادة الوفيرة في مسالك السير والطرق»( ).
مع ذلك لا يفترض أن يكون كلُّ جغرافيٍّ رحَّالةً، وأن يكون كلُّ رحَّالةٍ جغرافيَّاً، فالاجتهاد الشخصيُّ كان المحرِّك الأول لكلٍّ من الرحلات والجغرافيا، وتعدَّدت أشكاله. فمن اجتهاد أديب لغويٍّ، واجتهاد جغرافيٍّ وفلكيٍّ، واجتهاد تاريخيٍّ وإنسانيٍّ، واجتهاد رحَّالة هاوٍ.. «وقد تنطوي الكتابة في الرحلة على خلط بين الحقيقة الجغرافيَّة والحدث التاريخيِّ والسلوك الاجتماعيِّ، وقد يتمادى الخلطُ في الكتابة التي تسجِّل حكاية الرحلة، حتى تستغرق أحياناً في ذكر الغرائب والعجائب التي تستهوي الكاتب»( )، ويحكمه في هذا الأمر ذوقه وميوله واهتماماته، «رغم أن هذا لا ينفي حقيقة التشابه الكبير في بعض الأمور،
لأسباب سياسيَّة ودينيَّة واجتماعيَّة يخضع لها الرحَّالة»( ).