أنت هنا

قراءة كتاب أحلام مدينة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أحلام مدينة

أحلام مدينة

كتاب " أحلام مدينة " ، تأليف فريدة ابراهيم ، والذي صدر عن

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 6

وتبقين رهينة الانتظار لعلّه يُكفّر عن جرائمه فيعتذر لكِ عن كل ما لحق بطفولتكِ البائسة.. طفولتكِ التي حُرِمَتْ من التعرف على عبق realpage0015الزغب الذي يعلو عنق أمكِ، كما حُرِمَتْ من حَلَمَةَ ثدييها اللتين غابتا بحليبهما المعد لكِ سلفا!..

يعتذر عن كل الأخطار التي لم تشاركي أنتِ في حياكتها وفرضتْ عليك.. وفجأة تجدين نفسك ومن دون مقدمات في حضن وطن آخر ليس وطنكِ، ومدينة أخرى لا تتعاطف مع أحلامك لا تشبه مشاريعك الصغيرة التي كنت تنتظرين نهاية الدراسة الجامعية، لتنفذيها بحرية مواطنة صالحة.

مدينة هادئة لا يعنيها صخبك ومشاكلك وأحزانك، كما لا يهمها فرحك، فأنتِ هنا نقطة محايدة من مشروعها الإنساني.

نقطة لا تتعدى حيزها المكاني الضيق؛ شقة في الطابق الثاني بها غرفتان وحمام ومطبخ وصالة تضم أريكة طويلة تتسع لكِ ولأحلامك، ولأكثر من شخصين آخرين، ربما للقادم الذي سيأتي!؟ شِعَافُ الجبال تفر من مكانها لتطل عبر نوافذ الغرف والبلكونة، أصص الزرع والورود الصغيرة الصابرة التي تحتمل رعونة هذا الجو البارد، مطر يأتي من دون موعد.. يكرر زياراته من دون خجل!

كرسي مصنوع من القصب يفترش الفضاء الذي يلتحف البلكونة في لحظات عناق شهي. طاولة صغيرة مستطيلة الشكل، ومدينة هادئة ترسم خطوط الفرح على مطالع سنة جديدة تتسلل رويدا رويدا عبر ثقوب الحزن الممدد بلا حياء منذ الطفولة إلى الآن..

نقطة محايدة تُزرعين -أنتِ- في قلب هذه المدينة. يقفز الحزن من الأوردة كأرنب مفجوع بطلقة رصاص يتمدد أمامكِ، يتلوى يشكلك على هيئته الزئبقية، لا أحد غيركِ وذاك الصوت الذي يشبهك كثيرا أو قليلا.. تتنبهين أنه هو كذلك يأخذ هيئة هذا الحزن الذي أضحى realpage0016صورة لشخص آخر يقاسمكما المسكن والمبيت والحمام ومشاهدة التلفاز في سهرات الليل الطويل.

هو ذاته الحزن الذي ظننت أنكِ برحيلكِ ستحشرينه في عنق مدينتكِ ليختنق وجعاً، وتهربين أنتِ منه إلى هذه المدينة الهادئة التي اختارها لك على مقاس أحلامكِ. مدينة أخرى تفضح غربتكِ وتخبرك كلما نسيتِ أو تناسيت أنّكِ مجرد نقطة محايدة.

حيثما حللتِ في السوبر ماركت أو في الحديقة اليابانية أو في متحفها الجليل الذي تخاصره مياه النهر من كل جانب، ولا تترك له إلا رواق يسع السياّح القادمين كالمطر، حيثما كنتِ تلازمك لَكْنَةُ لغتكِ التي لم تتحرري منها بعد، رغم إتقانك للغة الفرنسية والألمانية اللتين تناسبان مدينتكِ الجديدة ورغم محاولاتكِ لإتقان اللَّكْنَة المحلية بصورة لا تثير ذاك السؤال الذي تخشينه دوماً.

- من أي البلاد أنتِ..؟؟!

في بلدان الآخرين نكون أشبه بطفل بدأ يتعلم المشي للتو، فنتعلم الكلام والمشي والتصرف حسب أهل البلاد التي نحط بها الرحال، حتى الحب والكره نتعلمهما من جديد وكأننا لم نعرفهما من قبل!

ملزمون بتعلم كل شيء حتى طريقة الفرح والحزن.. مجبرون أمام الآخرين أن نتقنهما تماما مثلهم. والأكيد أن الجهد الذي نبذله ونحن نتعلم أشياء الآخرين يهدر عمرا ينسلُّ من مسام القلب المتيبسة، فيفقدنا قدراتنا المعتادة..

وصدقا نتغير.. شئنا ذلك أم أبينا!!

في لحظة ما، وأنا ألـمُّ أشتات ذاكرتي هناك قبل السفر، اعتقدت أن أسوأ شيء ينتظرني هو أنني سأعيش وحيدة، لكنني اكتشفت بعد مضي الشهور أن الأسوأ من ذلك؛ شعوري بالمسافة الرهيبة التي تفصل بيني وبين الآخرين وفقداني القدرة على التقرب منهم والاستئناس بوجودهم، ربما نحن نفرغُ من الحب أيضا عندما نغادر مدننا.. نفرغُ من أشيائنا الجميلة التي تربطنا بالعالم الخارجي. تتكلس مشاعرنا كالحجر الجيري فنفقد متعة الحياة والإقبال عليها.

يستمر الصوت معربدا بداخلي يقاسمني الإحساس بالألم والفرح معا.

- صباح الخير.."أنترلاكن"..!

ها أنا أولد فيك من جديد كأمنية فرح مهربة من وطن إلى وطن ومن أرض إلى أرض، أولد في صبح آخر تعطرت أكمام زهوره بأريج ندف الثلج.

صباحك ثلج أيتها المدينة الضبابية الجميلة! من مغازل مطرك ألـُمُّ أوجاعي في هذه المفكرة. أرتمي قبالة بحيرتك الفضية الهادئة، لأستبق حزن المساءات المعتادة وأفرغ فيك ما يمكنني إفراغه.. فإذا جاء المساء وجدني عروسا تتباهي بقدها الممشوق وبحزن عينين لوزيتين تعانقان غَبَسَ سماءك في رحلة البحث عن بهجة خلفتُها هناك.. في مدينة عاقرت مراهقتي حد الإدمان، تلك المدينة التي لفظتني بعد ولادتي، رفضتني لسبب أجهله لكنني أحسه كسم انغرز في المسام، فأضحى جزءاً من الدورة الدموية التي تجري في عروقي فترسمني على هيئة كائن بلا ملامح مميزة..

مدينة مازالت تراقبني بارتياب، ومازلت أحمل اسمها لأبقى مَدِينة لها بنـزر من الحنين!

صباحك.. حب "أنترلاكن"..!.

الصفحات