كتاب " الشعر وأفق الكتابة " ، تأليف صلاح بوسريف ، والذي صدر عن منشورات الضفاف للنشر والتوزيع ، نقرأ
أنت هنا
قراءة كتاب الشعر وأفق الكتابة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
(3)
حين أذْهَبُ إلى هذا النَّوع من "مُراقَبَة الصًّيْرُورَة"، فأنا أُؤكِّدُ على تجديد أُفُق الرُّؤيَة، وخَوْضِ المعرفة كانْشِراحٍ. إذا كان فلاسفة ما قبل سقراط، هؤلاء الذين أخْرَجَهُم نيتشه من نَفَقِ النِّسيان، زَاوَلُوا النَّظَرَ، بهذا المعنى الذي أذهَبُ إليه هنا، وهُم يعيشون في لحظةٍ، مَا يَفْصِلُنا عنها اليومَ، هو مسافة لا يُمكِنُ تَصَوُّرُها، فماذا سيكون وَضْعُنا اليوم، نحنُ الذين نعيش زَمَنَ التِّقنية، واتِّساع إمكانات الاتِّصال، ووسائل تَدَاوُلِ المعرفة...
أليس، ما نحن بصدده من تَرْسِيخٍ لقواعد وضوابط، في كُلِّ أصْعِدَةِ الإبداع، والإنتاج المعرفي، هو نوع من التَّراجُع عن مُكْتَسَباتٍ جاءَتْنا من زمنٍ بعيدٍ.. أليس هذا نوعاً من الخيانة لِوَدِيعَةٍ تَرَكَها هؤلاء في ذِمَّتِنا..
(4)
القلقُ الذي يُسَاوِرُنِي اليومَ، في ما يَحْدُثُ في الكتابة الشِّعريَةِ، خُصوصاً في مجال استعمال المفاهيم والتَّصَوُّرَات، هو ما يدعوني دائماً إلى الاستعانة بهؤلاء، أو بما اقْتَرَحُوه علينا من تَصَوُّرَات، جاءت كُلُّها من مُستَقْبَلٍ، رُبَّما، اسْتَشْعَرَ هؤلاء، في حاضِرِهم، أنه هو الصَّيْرُورَة ذاتها، التي ينبغي أن يُرَاقِبَها مَن سَيَحْمِلُ بَعْدَهُم هذا العَنَاء.
فحين تَتَمَلَّكُنا المفاهيمُ القديمةُ، وتُقِيمُ في أذْهَانِنا، أو تَتَرَسَّخُ، فإنَّ نِظَامَها الذي تتأسَّسُ عليه رُؤْيَتُها للوُجُود والـمَوْجُودِ، معاً، يَتَسَرَّبُ إلى ما نَكْتُبُهُ، وينعكس عليه، أو يَفْرِدُ عليه ظِلالَه. هذا أَمْرٌ لا نَتَنَبَّهُ إليه، ونَخُوضُ مَزَالِقَهُ، حتى ونحن نَتَبَنَّى الحداثة، كأُفُقٍ لرُؤيَتِنا، أو لِما نُقْدِمُ عليه من كتابات وتصوُّراتٍ.
ثَمَّة مَطَبّ نحن اليوم، واقعون فيه، وهو مطبّ اسْتِحْلاء ما في يَدِنا، أو ما وَفَدَ علينا من ماضٍ ما، نَخُوضُه دون مُسَاءَلَةٍ، ولا نُخْضِعُهُ للاسْتِجْوَابِ، بقدر ما نخوضُهُ كَمُنْجَزٍ، وكنظامٍ ثابتٍ وقَارٍّ.
فـ"إزاحة الأنقاض"، كما يذهبُ إلى ذلك هايدغر، عن هذه الموروثات التي أَتَتْ إلينا من أزمنة سَحِيقَةٍ، والنَّظَر فيها، كما هي، أي كما حَدَثَتْ في زمنها، هو الكفيل بأن يُخْرِجَنا من مَطَبِّ الـمُسلَّمات، ولِنَشْرَعَ في تَوْطِينِ أنفُسِنا على الحركة، وعلى التَّرَحُّلِ، وقبول ما يَحْدُثُ من مُقتَرَحات، وخوضها كمُخْتَلِفَاتٍ، أو كنوع من الـمُراوَدَة القَلِقَةِ لأراضٍ، لا تَسْتَطِيبُ زَرْعاً، ولا مَاء يهدأ في قَاعِها.