كتاب " ثلاث عشرة ليلة وليلة " ، تأليف سعد سعيد ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب ثلاث عشرة ليلة وليلة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ثلاث عشرة ليلة وليلة
الليلة الأولى
أنا آسف يا سيدي، ولكنك بدوت وكأنك تعرفني، حتى إنك قلت (أنت) عندما رأيتني.. يبدو أنك توهمتني شخصا آخر، أنا يسار محمد محمود كما تعرف، وحضرتك؟.. آه اسمك مدون هنا.. لنرى.. العقيد عباس محمود زكي.. لا يا سيدي، فهذا الاسم لم يمر بـي من قبل، كما أني على يقين من أنني لم أرَ وجهكم الكريم قبل اليوم... على كل، شكرا جزيلا لك سيادة العقيد، لقد غمرتني بفضلك لأنك سمحت لي أن أبات معك هنا، بدلا من أن اكون في النظارة.. بكل تأكيد أنا سعيد الحظ لأنك تبات هنا يوميا حتى تستحق إجازتك الدورية لتذهب إلى أهلك البعيدين، ولكني بالحقيقة لا أهتم إن بقيت هناك في النظارة، فقد تقبلني النـزلاء بينهم بنحو جيد، وخاصة بعد أن عرفوا أني مواطن سويدي.. لا، بل نعم، أنا سويدي الجنسية الآن، ولكني عراقي حد النخاع.. ما عليك من الجنسية، فهي لا تعني لي شيئا، أنا ولدت عراقيا، وأحببت عراقيتي، وسأبقى كذلك حتى لو حصلت على جنسيات العالم كلها.. ولكن الحق يقال، سأشعر براحة أكبر هنا.
آه، ذلك الرجل.. حمدا لله أنه لم يمت، ولكنه في المستشفى بسبب فكه المكسور كما سمعت.. أتدري؟.. لم أعرف أني أمتلك مثل هذه القوة بقبضتي.. يبدو أن الغضب هو الذي فعل فعلته.. أردت الدفاع عن نفسي بعدما هاجمني، أكان يجب عليّ أن أتقبل ضرباته، لكي أجعل دفاعي عن نفسي، شرعيا.. وما هي إلا لكمة واحدة، من أين لي أن أتوقع أنها ستكون القاضية.. أنا على يقين من أنك ستتصرف كما تصرفت أنا بالضبط لو وجدت نفسك في مكاني.. وعلى كل حال، لِمَ هو باقٍ في المستشفى، أسيخضع لعملية تبديل فك، أم أن ذلك الفك المكسور سيهدد حياته، أم أن النظام الصحي في بلدنا جعل من مستشفياتنا مؤسسات علاج ونقاهة.. أليس الأمر واضحا، ولكن لا.. أنا آسف سيدي، لن أعتذر منه، وليفعل ما يريد، لم يعد الأمر يهمني.. لا لن أعتذر، فهو يمثل لي كل ما أكرهه في الآخرين.. سخيف، متعالٍ، عديم الاحساس، لئيم.. كولده، وفوق هذا كله، هو جبان.. أقسم لك يا سيدي أنه عندما وقع على الأرض، لم يغب عن الوعي، بل كان صاحيا، صاحيا جدا، ورغم ذلك كان ينادي مستغيثا كالأطفال، وأنا أقف متأهبا لنيل عقابـي الذي توهمته بعد أن فعلت به ما فعلت، فهو أضخم مني بكثير وبإمكانه أن يزدردني، لا أن يضربني فقط، ولكنه فضل أن يبقى منبطحا على الأرض لكي لا يواجه.. نعم، لقد كنت مصمما على الدفاع عن نفسي، ولكن لا بأس بتلقي بضعة لكمات دفاعا عن موقفي الذي أصررت عليه، اضطررت لوقوف ذلك الموقف، إذ لم تَرُقْ لي فكرة أن أترك ذلك الصغير البريء ليتلقى عقابا لا يستحقه، لوحده.. كان ضعيفا، فهل يجدر بـي أن أتركه لوحده.. لا يا سيدي، لقد طال زمان سكوتنا على الظالم، ولذلك اشتد علينا الظلم، أتعرف ما أبرز عيوبنا؟.. إنّها اللامبالاة، تترى الأخطاء أمام أعيننا، ونحن نقول، ما همنا ما دام الأمر لا يعنينا، او في الأقل، لا يؤذينا نحن.. والأخطاء تتراكم، وتتراكم، حتى خنقتنا وعمّت دنيانا، وها قد أحالت حياتنا، ظلاما.. لا لم يكن لي أن أترك الصبـي وحيدا، مثلما كنا أنا وأنت وهم، عشنا كلّ لوحده، ولذلك استفحل الظلم بنا.. لا، أنا لا أريد أن أُبريء نفسي من الأخطاء، فقد اقترفت الكثير منها، لكني كنت وحيدا مع ذلك.. لم أشأ أن أترك الطفل وحيدا لأن هذا ما يجدر بـي أن أفعله في تلك اللحظة، وحاولت أن أوضح الأمر لهم.. هذا كل ما حاولته.. أن اشرح الأمر لهم، أن أوضح إن المسكين كان يدافع عن نفسه فقط.. أفلا يحق له ذلك؟.. ولكن ذلك الحيوان لم يفهم.. بل لم يشأ أن يفهم، فقد كان مشغولا بساديته وتمتعه بمظاهر تمكنه من الآخرين.. أتعرف، أنا تعاطفت مع الصبـي كثيرا، من دون شك، ولكن الذي أثار غضبـي حقا في تلك اللحظات، هي النظرة التي لمحتها في عيني أبيه وهو يردد بصره بيني وبين ذلك المخلوق.. كانت نظرة استعطاف، استرحام.. بدا مهموما لأنه مضطر لضرب ولده وإنـزال العقاب به.. وعندما قلت ما قلته لهم، بدا أن الأمل قد راوده في أن يتخلص من ذلك الموقف القاسي على قلبه، ولكن ذلك الجلف السادي لم يشأ أن يسمع.. لم يشأ أن يفهم، فأصرّ على موقفه، والأنكى من ذلك، أنه حاول مهاجمتي لمجرد أني قلت الحقيقة. لقد آن لي يا سيدي أن اقف موقفا صحيحا في حياتي.. نعم، لقد تأخرت في ذلك كثيرا، كما كان شأني دائما، ولكن أن نقف مثل هذا الموقف، ولو متأخرين، لأفضل ألف مرة من أن لا نقفه أبدا.