كتاب " ثلاث عشرة ليلة وليلة " ، تأليف سعد سعيد ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب ثلاث عشرة ليلة وليلة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ثلاث عشرة ليلة وليلة
- أين الباقون؟
لم أهتم لسؤاله، وتجاهلت علامات الإستغراب التي بدت على وجهه وهو ينقل نظره بيني وبين الباقين من خلفي، لأني اقرنت تساؤلي بالالتفات نحوها وكأني كنت أبحث عن أحد.. طالعني جانب وجهها الجميل، لم أرَ عيونها الباسمة، بل لمحت نظرة جانبية سريعة منها، صافحت نظرتي العطشى.. كانت لي.. أنا.. كانت نظرة خاطفة، ولكنها تكفيني.. أو هكذا ظننت، حتى أرى ما سيكون من شأننا في الغد.. عندما أراها مرة ثانية.
في تلك الليلة، لم أنم ولو لحظة واحدة، والسهر يا أستاذ في القسم الداخلي مؤلم جدا، لأن حرمانك من النوم الذي يتمتع به كل من حولك، وأمام عينك، مضنٍ.. كانوا جميعا نائمين، فبتُّ أدور وأدور.. أذرع الممرات وأزور الغرف.. أصل إلى الباب الخارجي المغلق، أعجز عن فتحه، فأرجع لأدور بين الأسرة، استمع إلى نغمات شخير مختلفة.. سيمفونية من نشاز، فيزداد قرفي، وتزداد مشاعري اضطرابا.. أهرب، ولكن إلى أين، فثمة شخير في كل مكان.. حتى الحمّام لذت به، ولكن ما من جدوى.. كتب عليَّ أن اعاني ساعات تلك الليلة جميعها، حتى انبلج الفجر.. حينما بدأ الطلاب المتدينون بالاستيقاظ لأداء الصلاة، تبدل مزاجي قليلا وهدأت، فمر الوقت اعتياديا حتى قررت أن أذهب إلى الجامعة مبكرا، ومن دون أن أتناول فطوري. قبل بدء الدوام بأكثر من نصف ساعة، كنت واقفا أمام باب الجامعة الرئيس، أنتظر.. مضى الوقت بطيئا جدا، وخطتي في أن أراها مرة ثانية قبل الدوام، تحبط تدريجيا.. لم تظهر، فانتابتني الحيرة.. ما الذي حدث، أيمكن أن تكون قد سبقتني في الوصول، أم أنها سلكت الباب الخلفي للجامعة.. لم استطع أن أستقر على تفسير، أو أن أذهب لأتأكد من وجودها، خشية أن تحبط خطتي نهائيا.. ولكن هذا ما حدث، فذهبت إلى نادي الجامعة لأتناول فطوري المستعجل، لأن الدوام كان قد بدأ ولا مجال لرؤيتها متسكعة بعد بدء المحاضرات.. فتسكعت أنا بعد الفطور لمدة شعرت بها طويلة جدا، حتى تحين ساعة الكلية الحرة التي تكون يوميا بعد المحاضرة الثانية، وقبل أن تحين بقليل، كنت قد أخذت موقعي أمام باب القاعة التي رأيتها تدخلها في أول مرة تبعتها.. حانت اللحظة، فبدأت اتابع الوجوه التي تغادر، ولكني شعرت أنها غريبة لم تمر بـي من قبل.. لم أرها، ولم أر وجهي رفيقتيها.. ماذا حدث.. أين هي.. إقتربت من باب القاعة لأتأكد.. لم يكن ثمة أحد.. أين هي، صرخت روحي ملتاعة.. لم تكن موجودة في أي مكان، فعانيت من الإحباط حتى إنتهى الدوام، فرجعت خائبا، لأقضي بقية يومي مهموما، وأنا بالكاد أصبر حتى يأتي الغد.. أشفقت على نفسي من ملل المزيد من الإنتظار، ولكن النوم كان له رأي آخر، فقد إجتاح النعاس، دفاعات يقظتي، مستعينا بالتعب الذي حل بـي، حليفا له، نمت حتى قبل تناول طعام العشاء، ولم أستيقظ إلا فجر اليوم الذي تلا.. كان من الطبيعي أن أبادر إلى الذهاب إلى الجامعة في ذلك اليوم، ولكن أصدقائي عندما دعوني للذهاب معهم، رفضت، فقد قررت فجأة أن لا أداوم! لا لأني إكتشفت فجأة أني لا أحبها.. معاذ الله، بل لأني خشيت من خيبة أمل أخرى، لم أكن مستعدا لها.. بقيت وحيدا في القسم الداخلي، أذرع الممرات وأنا لا أكاد أستقر على حال.. أعقد العزم على الذهاب، ثم أعدل.. أقنع نفسي بأن الأمس كان (أوف) قسمهم، وهذا أمر وارد، ولذلك لم أرها، ولكني أخشى الإحتمالات السيئة، فأقرر البقاء في القسم.. أخيرا، قررت نهائيا أن لا أذهب، فوجدت نفسي بعد ربع ساعة وأنا أغذُّ السير باتجاه الجامعة.
وصلت في أثناء الساعة الحرة، فوجدت الطلاب وقد ملؤوا ممرات وحدائق الكلية.. رحت أدور كالمسحور هناك، فأنا اعرف أنها لا يمكن أن تبتعد عن مباني الكلية.. أقسم أنه لم يكن في بالي حينها، غير وجهها الجميل، أبحث عنه بإصرار.. حتى رأيته.. ضربني شيء ما في معدتي، وتسارع نبضي.. شعرت وكأن درجة حرارة جسمي ترتفع باضطراد حتى أصبح وجهي مشعاعا.. آه يا استاذ، لقد بذلت جهدا كبيرا للسيطرة على انفعالاتي، ثم اسرعت لفرض وجهي على ناظريها.. كنت أتوقع منها نظرة، نظرة فقط، بعدما حدث أمس الأول، كانت هي كل بغيتي.. ولكنها لم ترني.. لم تشعر بوجودي، بل لم تنظر باتجاهي أساسا.. حوّلت مكاني عدة مرات، ولكن النتيجة بقيت نفسها.. لا ردة فعل.. لم أجد نفسي في عينيها، بل لم أكن موجودا لديها.. ولكن ماذا عن تلك النظرة الجانبية.. مرة أخرى، لا جواب.. حاولت، وحاولت، ولكن بلا جدوى.. هيا يا (محافظات) مالك تريد أن تهين نفسك أكثر، ألم تفهم بعد.. ما تفكر به، وتأمله لا يمكن أن يكون، أين أنت منها.. إذاً.. هي الطبقية مرة أخرى.. مرة أخرى يثبت (ماركس) أنه كان على حق.. نعم هي طبقية (مكانية) في هذه الحالة.. طبقية (بلدات)، ولكنها طبقية على كل حال.. أنا، أتصور.. أتعرف يا سيدي أي يأس يجعل الإنسان يفكر بهذه الطريقة، أية مرارة، أي شعور بالإحباط.
حملت خيبتي وهرعت إلى معن.. آه، أي صديق جميل كان معن هذا، فما أن قلت له:
- معن، أحتاجك.. هيّا معي.
حتى تناول محفظة أوراقه، وتبعني تاركا ما تبقى من محاضرات وهو الذي لم يفعل ذلك من قبل.. في سيارة الأجرة التي استقليناها، سألني أكثر من مرة:
- إلى أين نحن ذاهبان؟.
ولكنه لم يتلق جوابا مني، حتى توقفت السيارة في ساحة النصر، حيث ترجلنا، وسحبت معناً من يده باتجاه (بار) كنت أعرفه جيدا.. بان التردد عليه عندما عرف بنيتي، ولكن رقته منعته من الرفض، فقط اشترط عليَّ أن لا أجبره على الشرب.. عندما دخلنا، ظهر واضحا عليه أنه لم يرتح للأجواء هناك، ولكني كنت مشغولا بنفسي فلم أعر ذلك إهتماما.. لما جاءنا النادل، طلبت له زجاجة (بيبسي) فيما طلبت لنفسي زجاجتين من الجعة، ما أن أحضرتا، حتى بدأت الشرب بسرعة في محاولة لنسيان خيبتي المرة.. زجاجتان، أعقبتهما باثنتين، ثم اثنتين وأنا أعبّ وأعبّ، ومعن يحاول معرفة ما حل بـي ولا يتلقى غير كلمات مقتضبة من مثل (ضايج) و(مقهور) و(طاكّة روحي) من دون أن تضم أي منها، جملة مفيدة.. وأنا أقضي على محتوى الزجاجة السابعة، إنتبهت لعدد القناني التي بقيت على الطاولة لكي يحاسبني النادل على عددها.. سبع، وأنا الذي لم أتعدّ الثالثة يوما، فأعجبت بنفسي، فرغم الدوار الذي بدأت أشعر به، إلا أني واع لنفسي ولما يدور من حولي.. فهأنذا انتبه للزجاجات وأعدّهن، وهذا هو معن المسكين أمامي وهو يقاوم دعواتي الملحة لمشاركتى معاقرة الخمرة، وها هو نادل البار الذي ابتسم له كلما مر من أمامي.. إذاً أنا أمتلك المقدرة على مجاراة صحبـي، رغم قلة خدمتي في هذا الميدان.. ولكن ما لرجولتي لم تزل تشكو الهوان.. عندها خطرت لي فكرة للإنتصار لرجولتي، المخصية.. قلت لمعن وأنا أغالب الخدر في لساني:
- أنذهب إلى الدورة؟.
رفع معن حاجبيه من الدهشة وقال:
- الدورة، وما نفعله في الدورة.
فقلت وأنا أجاهد لتكون كلماتي مفهومة:
- لقد اكتشفنا مؤخرا، بيتا للدعارة هناك، وفيه من النساء ما تشتهيه نفسك.
فصاح معن بصوت بدا فيه الاستنكار واضحا:
- ماخور.. إلا هذا.. أنا آسف يا يسار، أنا أحبك، ولكني لن اجاريك في هذا.
فتساءلت على الفور:
- ولكن، لماذا؟
فرد علي بنبرات حاسمة:
- هذا خط أحمر.