كتاب " ثلاث عشرة ليلة وليلة " ، تأليف سعد سعيد ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب ثلاث عشرة ليلة وليلة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ثلاث عشرة ليلة وليلة
أخيرا، قررت الجامعة، وبعد مرور أشهر على بدء الدوام، أن تقيم لنا، نحن طلبة المرحلة الأولى، حفل التعارف التقليدي.. الذي لا نتعرف فيه على أحد.. تقرر أن يكون في القاعة الرئيسية للجامعة، فذهب طلبة القسم وطالباته جميعا إلى هناك، ماعداي، لأني تأخرت بسبب مهمة ما، على أن ألتحق بهم هناك.. أنهيت المهمة وأسرعت إلى القاعة، وعندما دخلت، حدث ما لم يكن متوقعا، فقد صاح باسمي أحد ما، بصوت عالٍ، فالتفتت جميع العيون الموجودة في القاعة، وهي كثيرة جدا، لتحدق بـي.. كدت أجمد في مكاني من هول المفاجأة، ولكن حرجي من أن يبدو ارتباكي واضحا أمام تلك العيون، جعلني أبذل جهدا هائلا لأستمر في المسير متصنعا الهدوء، وأنا ألعن معناً، الذي تبين لي أنه كان من صاح، في سري.. معن، زميلي الذي لا يستطيع أن يعيش من دون قائد! نعم، فهذا حال البعض من أفراد مجتمعنا، هم يشعرون في أعماقهم أنهم لا يستطيعون أن يواجهوا المجتمع بمفردهم، ولذلك يسارعون إلى الإنضواء تحت لواء أية شخصية قوية تواجههم.. فكان نصيبـي أن يسارع معن هذا إلى أن يعيّن نفسه، وزيرا لي، وداعية، في الوقت الذي كنت أجاهد فيه النفس، لكي لا أرضخ للضعف الذي توطن فيها بسبب خجل مرضي ورثته من طفولتي، ويجعل من التجمعات البشرية محيطا غير ملائم بالنسبة لي.. صاح معن عندما دخلت "ها قد أتى يسار" معقبا صيحته بتصفيق سرعان ما استجاب له طلبة القسم وطالباته الرازحين في وقتها تحت وطأة المرحلة الانتقالية من قيود المجتمع، وانفتاح الحياة الجامعية، فشاركوه بانفعالاتهم الفجة ليجعلوني قبلة أنظار العشرات، بل المئات من الطلبة المحتشدين في تلك القاعة الكبيرة.. أنا الذي تعودت الهروب من الأنظار في كل مكان جديد أدخله، يجب أن أواجه وحيدا جميع تلك النظرات المحتشدة بالتساؤلات والإستغراب.. كان ارتقاء الدرجات الأولى في تلك القاعة المدرجة، بهدوء، أمرا بالغ الصعوبة، ولكن بعد تلك الدرجات، بدأ الأمر يستهويني بالتدريج، فالعيون، معظم العيون كانت معلقة بـي أنا، فما العيب في التمتع ببعض المجد المؤقت، وإن كان زائفا.. مع كل درجة كنت أصعدها، كانت ثقتي بنفسي تزداد مع تسرب المزيد من الشعور بالخفة والارتياح إليها، وعندما وصلت إلى حيث كان يجلس زملائي، شعرت وكأن يسارا آخرَ قد احتل دواخلي واستلم القيادة.. ألقيت تحية مختال على رعيتي، فقابلتني بالمزيد من التصفيق والهتاف.. كان (سانشو بانـزا) قد حجز لي مقعدا يتوسط طلاب القسم بالضبط ورفض أن يشغله أحد غيري، فكان لا بد من أن أتجاوز غابة من السيقان قبل أن أصل إليه.. وأنا أجلس، ألقيت نظرة خاطفة لأرى من يجلس خلفي، كما تعودت أن أفعل في دور السينما.. رباه يا أستاذ، أقسم بأن شعر جسدي اقشعر في هذه اللحظة، لأني تذكرت.. أتصدق؟.. أتستطيع أن تتصور أن الذي كان يجلس خلف المقعد المخصص لي بالضبط، فتاة.. واية فتاة.. كانت هي.. هي من دون طالبات الجامعة المستنصرية كلها، وما كان أكثرهن.. هي كانت تجلس خلفي بالضبط، بين مجموعة من الطالبات.. جمدت في مكاني للحظات، فقد تلاقت نظرتانا لثانية، أو لجزء منها، ولكن نظرتها هذه المرة لم تخترقني، بل توقفت عند وجهي، واشتبكت مع نظرتي.. زايلني حينها الخيلاء، وتسربت مني الثقة الزائفة، شعرت بوهن في ساقي، فجلست بلا وعي مني وأنا أرتجف.. لِمَ يتصرف معنا القدر هكذا أحيانا.. أبعد أن قررت أن أنساها، يهيء لي هذه الفرصة.. لِمَ.. ما الذي يريده مني؟.. بل ما الذي كان يبيته لي؟.. المهم، ورغم كل شيء، في تلك اللحظات أحببت معناً كثيراً، وظلّ صديقاً لي إلى النهاية.. حاولت بعد ذلك كثيرا أن أقيم علاقة متوازنة معه، ولكنه أبى إلا أن يكون تابعا لأبأس قائد يمكن أن ينتقيه.. أنا!
جلست مشتت الذهن، عاجزا عن التركيز.. كيف حدث هذا، ولماذا.. لم أستطع أن أجيب.. ماذا أفعل.. لم أستطع أن أجيب أيضا.. ولكن يجب أن أتصرف بطريقة ما.. هذه فرصة يجب أن أستغلها.. كيف، لم أعرف، ولكن، يجب.. بقيت لدقائق لا أستطيع أن أستقر على رأي، كنت خلالها مسمرا في مكاني وأنا أعاني من رغبة شديدة في الإلتفات لأنعم برؤية محياها الجميل، ولكني كنت أعرف أن هذا مستحيل، لأنها ستكون النهاية إذا ما صدق حدسي وظهر أنها ليست من النوع الذي يمكن أن يروق له مثل هذا التصرف الصبياني.. حسنا لأهدأ، هكذا خاطبت نفسي أو، لأحاول أن أهدأ.. بذلت جهدا لأستعيد تركيزي، حتى إني شعرت بانـزعاج من صديقي، الذي كنت قد أحببته لتوي، لأنه كان مصرا على توجيه الحديث لي، وغمري باسئلة تافهة لم أملك إزاءها إلا تحريك رأسي ولم أعرف كم تطابقت هزات رأسي المختلفة مع الإجابات المطلوبة.. في ذلك اليوم، أدركت مدى صعوبة توجيه حاستين مختلفتين، نحو هدفين في آن واحد، فقد كنت أتابع بنظري ما يحدث على المسرح، فيما كانت أذنيّ تترصد كل صوت يمكن أن يصدر عنها.. صوت، ولكن كيف لي أن أميز صوتها وأنا لم أسمعه بعد.. كان هذا هماً آخر.. أن أميز صوتها، ولذلك حين أدركت إستحالة أن أرى ما أمامي وأن أسمع ما خلفي في آن واحد، فضلت أن أغمض عيني.. نعم، أغمضت عيني، ورحت أركز كل طاقاتي في أذني.. وبالتدريج بدأت أسمع أصواتهن التي كادت أن تكون همسا.. يا لهديل الحمام.. ركزت، وركزت، فالتقطت اسم (باسمة).. آه، اسمها باسمة إذاً.. والله اسم يليق بها.. باسمة.. حبيبتي.. ولكن فرحتي بمعرفة اسمها، لم تدم طويلا، فقد طرق سمعي بعدها، اسم ماجدة.. ثم وصال.. والآن سهى.. وفريال هذه من أين ظهرت.. يا لهذه الحيرة.. يا لخيبة الأمل.. لا، يجب أن اركز أكثر لأستطيع أن أميز صوتها من بينهن، فعندها فقط أستطيع أن أحدد اسمها من بين زحمة الأسماء هذه.. ولكن كيف أميز صوتها.. ألست أحبها.. ألا يجب أن يعينني هذا.. ولكن ما من معين.. انقطعت نهائيا عن التطلع إلى الأمام بالاستمرار في إغماض عيني من دون اهتمام بمن يمكن أن يراني على تلك الحالة.. وضعت روحي في أذنيّ.. كن يتحدثن عن دروس ومحاضرات.. عندها فقط تذكرت، أنا أعرف أنها في السنة الثانية بقسم الإحصاء، فما الذي أتى بها إلى القاعة.. أليس هذا حفلا لطلبة السنة الأولى.. ماذا يعني هذا يا رب.. أهي رسالة لي.. أهي إشارة ما.. ركزت أكثر وأكثر، وبعد وقت طويل من المحاولات المضنية عرفت أنهن ثلاث فقط، هي واثنتان من صديقاتها.. كن زها ووصال وفريال، ولكن أيهن هي، لم أعرف.. على كل حال، كان ذلك مكسبا لي في كل الأحوال، فاحتمال من ثلاثة أفضل من ما لانهاية له من الإحتمالات.. هو نصر إذاً.. زها.. ياله من اسم.. زها.. أيعقل أن تحبني فتاة هذا اسمها.. زها.. يا لزهوي وفخري إذا ما حدث ذلك.. زها، ومن بغداد.. غاية المنى.. ولكن من يؤكد لي لحظتها أنها زها.. على كل حال، فالإسمان الآخران جميلان أيضا.. بهذه السخافة والقدرة على إجترار التفاهات كنت أفكر يا أستاذ.. هكذا كانت تداعيات تفكيري تجري في ذلك اليوم الذي سأكذب لو قلت إنه لم يكن واحدا من أفضل أيام حياتي قبل أن.. قبل أن.. المهم.. مرّ الحفل عليّ مرور الكرام، وعندما نهضت لأتهيأ للخروج، شعرت بالغثيان لأني لم أعرف كيف استدير باتجاهها، فقط لأرى وجهها ولو لثانية واحدة.. كانت قد أصبحت بجانبـي عبر الكراسي الممتدة، بيننا بعدما انتظمنا في الصفوف المتهيئة للخروج.. متر واحد، أو أقل، يفصلني عنها.. يجب أن أراها.. يجب أن أتطلع في وجهها، ولكني لم أجرؤ، فقد خشيت أن أثير استهجانها بحركتي تلك، ولكني لم أجد بدّاً من المبادرة.. كنت أعرف أني لن أستطيع مقاومة تلك الرغبة الجارفة.. عندما اِلتفت معن ليحدثني، تبادرت إلى ذهني الفكرة.. سألته من دون سابق إنذار، وبصوت مسموع من قبلها كما قدرت: