كتاب " إشكالية الغياب : في حروفية أديب كمال الدين " ، تأليف صباح الأنباري ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب إشكالية الغياب : في حروفية أديب كمال الدين
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
إشكالية الغياب : في حروفية أديب كمال الدين
3
في منظور الروائي؛ العالم رواية كبيرة، معقدة، بخطوط سردية متشعبة، لا تُحصى.
في منظور الشاعر؛ العالم مكان لإثارة دهشة دائمة، ومنبع لصور يجري احتواءها بالكلمات.
في منظور المسرحي؛ العالم خشبة مسرح هائلة تُؤدّى فوقها دراما الحياة.
في منظور الناقد؛ العالم نص مفتوح لقراءات وتأويلات لا نهاية لها.
يجمع صباح الأنباري في هذا الكتاب بين منظوري الأخيرين؛ الفنان/المخرج المسرحي والناقد.. فحتى وهو يرتدي قناع الناقد فإنه لا يستطيع أن ينسلخ عن جلده المسرحي، وحتماً لا نريده أن يفعل، فهو في هذه الحالة يعطينا رؤية استثنائية لعالم أديب كمال الدين الشعري. فنراه يستدعي مفردات من قاموسه المسرحي؛ الشخوص، الذروة الدرامية، اللبوس الدرامي، النهايات.... الخ. وإذ ذاك يريد أن يشخصن، لا الحروف وحدها- محور قصائد أديب ومادته ولعبته- ولا الكلمات وحدها، بل فضاء القصائد أيضاً، ويؤنسنها.. إنه يتحرّى عن الفعل الذي هو روح كل عمل مسرحي، في القصائد حتى وإن لم يخبرنا بهذا. إن الفعل هو في حقيقته صراع نقيضين أو أكثر.. تتبارى الأضداد وتتشاكس وتقاتل لكنها تتحد أيضاً في معادلة الوجود حسب ديالكتيكها الخاص.. ولأنّ الشاعر ينحاز للحياة فإنه لا يقدر أن يتجاهل شبح الموت المهدِّد، المترصد، والواقف خلف النافذة. وبهذا يختار الأنباري الموت ثيمة رئيسة في قراءاته لمنجز أديب كمال الدين.. الموت الذي هو شكل من أشكال الغياب، أو هو أكثر تلك الأشكال تراجيدية وغموضاً.. الموت الذي من غير التمعن فيه فلسفياً وشعرياً لن نستطيع أن نفهم الحياة.
نحن نعيش في عالم متنوع، متلوِّن، متحوِّل، ومتناقض.. هذا هو قدرنا وعلّة مجدنا وعاقبة بقائنا أحياء.. فيما مأساة الوجود تكمن في أنك تدافع عن حياة لم تخترها؛ لم تختر أن تولد، ولم تختر زمن ولادتك وموطنك، ولا الأسرة التي تنتمي إليها. كما أنك تقاوم احتمال الموت الذي ليس بمقدورك - إنْ لم تقدم على الانتحار- أن تقرر توقيته وشكله وطقسه ومكانه. وفي هذه المنطقة الشائكة والملتبسة يخوض الشاعر تجربة الكتابة..
الشحنة التراجيدية في قصائد أديب عالية.. ليس هناك من كوميديا أو سخرية واضحة، وإنْ لم تعدم قصائده قدراً من التهكّم الخفي.. التهكّم الذي مصدره الإحساس بالإحباط والعجز أمام هول الأحداث وفجائعية القدر. ولهذا يفاجئنا أديب كمال الدين، على الدوام، في المتن بمعترضات تواجه خط القصيدة في لحظة ما، أو موضع ما، من النص. وهي معترضات تمنح القصيدة سمة طباقية ومن ثم بُعداً حوارياً.. إن الصراع المحتدم على مسرح القصيدة يشي بحوار ساخن، معلن أو خفي، أو مسكوت عنه، في زاوية خفيّة منها. نقرأ مثلاً؛
"في الطريق إلى الموت:
الموت القديم المقدّس
فاجأني موتٌ جديد،
موتٌ لذيذٌ بطعمِ السمّ،
موتٌ لم أحجزْ له موعداً أو مقعداً".
المفارقة ثمة جليّة وصادمة، لا على الصعيد البلاغي وحسب، بل على صعيد الدلالة والمعنى كذلك. وهي تعبير عن مأزق الكينونة الإنسانية في مواجهتها لمصيرها.
هذا ما يرصده أديب ويحيله إلى نص يستمد تعقيده وإبهامه وتقاطعاته وسحره من العالم الذي يصوِّره. عالـمٌ يعيد صياغته ويُومئ إليه.. أما الأنباري في قراءاته لقصائد أديب فإنه يصل متون النصوص بخارجها، بحياة مبدعها، وبالحياة في صورتها الكلّية، المحتدمة والمتناقضة. فهو لا يكتفي في محاولاته بسبر جوانيّة القصائد والوقوع على أبنيتها الداخلية وأنساقها المضمرة بل يعمد إلى اكتشاف روح الشاعر وشذرات من سيرته، تلك التي بعثرها في قصائده. فما يبغيه الأنباري في النهاية هو قراءة سيرة الشاعر الوجودية والذهنية والعاطفية في نصوصه. فإذ يقرأ القصيدة عبر نسق بنائها وما تخزن من معاني ودلالات فإنه يلجأ أيضاً إلى حياة الشاعر؛ إلى طفولته الفقيرة وأحلام شبابه الآخذة بالتبدد، ومنفاه، وغربته؛ غربته الواقعية، وغربته الوجودية في الآن معاً.
يماهي الأنباري ما بين الشاعر وشخوص قصائده. لكأنّ الشاعر يتحدث، ها هنا، على ألسنتهم وعبرهم، ويرى في محنتهم محنته. وربما كانت رغباته الخبيئة المكبوتة تجد متنفسها في بعض فعالهم ومواقفهم. ويُعْلمنا الأنباري أنّ قصيدة أديب ما هي إلا تمثيل فني لواقع عاشه الشاعر وخبره وتمثله، وها هو يؤدي دور الرائي الشاهد من خلال استثمار ممكنات اللغة، والقدرة السحرية الموّارة للحروف.
كان يمكن للأنباري، لو أنه تقمّص وظيفة الناقد السردي الكاشف عن البنى السردية للقصائد أن يتحدث عن الرواة داخلها لا فقط عن الشاعر المبدع خارجها. ففي سبيل المثال لو أخذنا قصيدة (حارس الفنار قتيلاً) فإنه بقراءتها في بعدها السردي كان يمكن لتأويله أن يغطي مناطق أشد غوراً في أعماق القصيدة. فالقصيدة على الرغم من ارتكازها على حدث واقعي (مقتل الشاعر المعروف محمود البريكان غدراً) إلا أنها تنطوي على شحنة رمزية وجودية عالية، وهي تحكي عن تراجيديا الحياة الإنسانية في هذا العصر الشائن والمضطرب. فالقصيدة تمثيل بالكلمات والصور لتلك التراجيديا. وأظن أن هذا يوافق كذلك توجّه الأنباري كما في رؤيته لفضاءات القصائد بوصفها مسرح حياة صاخبة تتشح بهالة مأساوية.. ولابد من أن أنوّه إلى أن الأنباري نجح في تطبيق قراءة تناصية للقصيدة وهو يضعها في مواجهة قصيدة البريكان (حارس الفنار).