كتاب " إشكالية الغياب : في حروفية أديب كمال الدين " ، تأليف صباح الأنباري ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب إشكالية الغياب : في حروفية أديب كمال الدين
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
إشكالية الغياب : في حروفية أديب كمال الدين
مفصل الحرب والحصار
لقد استطاع الشاعر أن يفلسف حياتنا الصاخبة الضاجّة بالقلق والحرمان والحروب، ويترجم جوهرها الذي يراه قابلاً للتجوهر بعد أن رأى كلّ شيء، وسمع كلّ صوت، وأبصر بالعين والأذن والقلب كلّ شيء. سمع بالحرب وخاض أوارها، ورأى شوارع المدن مكتظّة بلافتات سودٍ ناعية، ومشافٍ لم تخلو ردهة من ردهاتها من جريح أو مشرف على الموت، ناهيك عن حاضنات الأعضاء المقطوعة، والمهروسة، والجثث بلا رؤوس، والرؤوس بلا جثث، والجثث المصطبغة بزرقة الموت العجيبة. أكثر من حربٍ دارت على أرض طفحتْ خيراتها حتّى استحالت نقمةً على ساكنيها. لقد رأى أديب كمال الدين طغاةَ أرض السواد وما جاورها وهم يعدّون العدّة لحروب اختلفت مسمياتها، وبُسملت معاركها بآيات من الذكر في محاولة ذكية أو خبيثة لشرعنة البدء بها، ولتزيين طغاتها، وإحاطتهم بهالة وهّاجة من العقيدة والإيمان وما كانوا يدركون أنّ مصير الطغاة آتٍ لا ريب فيه:
فإذا جاءَ يومي الموعود،
ولكلِّ طاغيةٍ أعددتُ يوماً موعوداً،
زلزلتُ به الأرضَ التي كانتْ
لا تطيقُ خُطاه
فانقلبَ تاجُه،
في رمشةِ عينٍ، إلى رماد[2]
خرج الطاغية من حربه الأولى مزهواً بحصد آلاف مؤلفة من الرؤوس الآدمية وما كانت كافية لإطفاء جمرة جنونه المتقدة. آلمه يتمها فأنجب، بعد حمل قميء، مثنى وثلاث حتّى ارتدت بغداد ثياب الدمِ، والدمعِ، والمحكومين بالصلب على مآذنها الثّكول. كان الشاعر يرى كل مساءٍ على (الطريق السريع) ببغداد قوافل المركبات محملة بالتوابيت الوطنية لشباب قُدّر لهم أن يكملوا ربع العمر أو منتصفه أو ما يزيد على ذلك قليلاً، وكانت عيناه تغرقان بالدموع وهي ترى جذور الوطن آخذة طريقها إلى الجفاف المميت:
تعبتْ بغداد من ثيابِ الدم
تعبتْ وبكتْ
وحين طلبتْ جرعةَ ماء
أعطوها قنبلةً للموتِ وسيفاً للذبح[3]
أرّقَ الشاعر أن يرى البلاد تسير من موت إلى موت وكأنّ الموت باسط جناحيه عليها دون غيرها منذ عصر فجر السلالات، وأن طغاتها من الأوّلين والآخرين لم تروِ ظمأهم حمّامات دم الشرفاء، ولم يهن عليهم أن تعيش بلاد الخوف بلا خوف. يقول أديب كمال الدين:
بعد أن خرجنا من الحرب
نرتدي معطفَ الرعبِ والجنون،
اتجهنا إلى بغداد
يتقدّمنا صاحبُ الجند
ممتطياً حصانه الأبيض مزهوّاً
ونحن من خلفه نجرّ أقدامنا جرّاً
حفاةً، شبه عراة.
قال، حين ظهرتْ مآذنُ المدينة،
"سأختار لكم موتاً جديداً".[4]
واستمر فعلاً في خياراته الدموية حتّى نال الوطن وسام العذابات الطويلة، ونال الشاعر نصيبه من تلك العذابات التي أنعم بها الطاغية عليه نقمة إثر نقمة حتّى جاء اليوم الموعود فذاق الطاغية مرارة الأسر في حرب أذلّته، وجعلت من قافلة شعرائه الأوغاد، وشعرائه المرتزقة، والمطبّلين المزمرين، والنافخين في قرب الشقاق على إيقاع النفاق هباءً منثوراً. يقول في قصيدة (شعراء الحرب):
حين ألقى البحّارةُ أصحابُ العيونِ الزرق
القبضَ على صاحبِ الجندِ في حفرته العجيبة
فرّ شعراءُ الحربِ جميعاً
فرّ كبيرهم إلى بلادِ الظلام
وفرّ صغيرهم إلى بلادِ الضباب[5]
ثمّ توزعوا على بقاع الأرض كلّها وهم الحاملون لجرثومة الحرب أنّى حلّوا، وحيثما رحلوا. لقد وضعت الحروب اللعينة أوزارها، ووضعت كل ذي حمل حملها فأنجبت لنا العاقر منها حصاراً، وجوعاً، وذلاً، ومهانة حتّى صار الإنسان يفكر بطريقة وأخرى لشرعنة أكل أخيه الإنسان. وصار الجندي يقطع المسافات مستجدياً ما يعينه على الوصول إلى أسرته. وتحوّل المعلمون إلى باعة للسجائر على أرصفة الطرقات، والأطفال إلى باعة لأكياس التبضّع، والجائعات المرضعات إلى بائعات لفلذات أكبادهن ثمّ إلى بائعات للهوى والمسرّة، وصار الناس غرباء بين ذويهم.