كتاب " إشكالية الغياب : في حروفية أديب كمال الدين " ، تأليف صباح الأنباري ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب إشكالية الغياب : في حروفية أديب كمال الدين
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
إشكالية الغياب : في حروفية أديب كمال الدين
مفصل السؤال
بعد هذا السرد، ومحاولتنا استقراء السيرة الحروفيّة من داخل منجمها الإبداعي، وباطنها المعرفي، وجوهرها الصوفيّ، وعمقها الحروفيّ، يطرح السؤال نفسه علينا: مَن هو هذا المتبصّر بحروف الخليقة، والمستقرئ سرّ نقاط الكون، والكاشف ما خفي وراء المعنى؟
إنه الألف (أ)، أو الإنسان، أو أديب كمال الدين، أو الحروفيّ:
أوقَفَني في موقفِ الألف
وقال: الألفُ حبيبـي.
إنْ تقدّمتَ حرفاً،
وأنتَ حرفٌ،
تقدّمتُ منكَ أبجديةً
وقدتُكَ إلى أبجديةٍ من نور.
وقال: سَيُسمّونكَ "الحروفيّ".[18]
قَدَرٌ رُسِمَ له، ونبوءة عَمَلَ على تحقيقها مستعيناً بما ملك من الحروف والنقاط والمعاني، ومن نقاء السريرة وصفاء النية، وبلورة الروح، ونفاذ البصر والبصيرة، وقوة الرؤية والرؤيا، والزهد عن الدنيا، والتقرّب لأهل الله ليستأثر بما وعِدَ، وليمنح، من ثلاثة وثلاثين ناقداً أدلوا بدلاء نقودهم في بئر حروفيّته العميقة، لقب (الحروفيّ).[19]فهل اكتفى بلقبه هذا وتوقف عند حدوده الدنيا؟ يبدو لي أنه لم يكتفِ به، ولم يتوقف عند حدوده الدنيا بل انه رام ما هو أبعد منها بكثيرٍ من دون غرور، وأسمى منها بكثيرٍ من دون تبجّح، وأرفع شأناً منها بكثيرٍ من دون استكبار. لنقرأ الموقف الآتي:
أوقَفَني في موقفِ الاسم
وقالَ: ما اسمكَ يا عبدي؟
قلتُ: النقطة.
قالَ: بل الحرف والنقطة جزءٌ منه.
ثمّ قال: ما اسمك؟
قلتُ: الحرف.
قالَ: بل الحروفيّ والحرف جزءٌ منه.
ثمّ قالَ: ما اسمك؟
قلتُ: الحروفيّ.
قالَ: بل الصُوفيّ والحروفيّ جزءٌ منه.
ثمّ قالَ: ما اسمك؟
قلتُ: الصُوفيّ.
قالَ: بل العارف والصُوفيّ جزءٌ منه.
ولما كانت تجربته الشعريّة غير مقولبة داخل أطر تحجيمية، أو محددات طرازية، على الرغم من كونكريتية خلفيته الصوفيّة، فانه ارتضى بالحروفيّ لقباً شعرياً، وصفة حروفية، واسماً دلالياً فيه ما يميّزه عن سائر المتصوّفة، وسائر الشعراء جميعاً. ولو قبل بلقب (العارف) وهو لقب صوفيّ بحت لخسر ما هو أوسع من الصوفيّة وتجلّياتها. إنها الإنسانية التي منحت قصائده امتيازاً شاملاً ودليلنا عليه اهتمام النقاد على اختلاف مشاربهم ومناهلهم بقصائده الشعريّة التي وسعت أفراح البشر وأتراحهم جميعاً.
ولم تكن صفة الحروفيّ مستأثرة بصفاته كلها فثمّة صفات كثيرة أخرى تمثّلت شخصيته وما انطوت عليه كالغريب، والمنفيّ، والـمَحروم، والضائع، والـمُمتَحن، والـمُشتاق، والسَجّاد، والـمَنسيّ، والـمُتضرّع، والـمُنوّن، والـمُتصوّف، والزاهد، والعارف التي على الرغم منها اعترف بتواضع كبير أنه ما كان الا حرفاً محدد المصير كسائر حروف الدنيا:
ما كنتُ إلا حرفاً،
ما كنتُ إلا ألفاً
مَصيري إلى التُراب
إذ خلقتني من طين.[20]
ولم يكن من بعد شيئاً آخر فالفعل الناقص (كنتُ) لم يأت هنا ليعبر عن الزمن الماضي حسب، بل عن الزمنين (الماضي والحاضر) على حد سواء ولنا في القرآن الكريم أمثلة كثيرة: "كان الله سميعاً بصيراً" أو "كان الله يحُبّ المحسنين" أو "كان الله عليماً حكيماً" والمعنى المقصود في هذه الآيات هو: كان ولم يزل. إذا عدنا للصفات المذكورة سنجد أنها استأثرت بعدد كبير من قصائده، أو تضمّنتها، أو أشارت إليها ربما في أكثر من موضع أو مقطع أو بيت منها. فمن القصائد التي تناولت غربته في المواقف قصيدة (موقف الغربة) وفيها يصل إلى ثلاث موجّهات لدرء نفسه منها:
قال: مَن عَبَدَني نجا مِن الغُربة.
ومَن أحَبّني قهرَ الغُربة.
ومَن عشقني كانت الغُربةُ عنده
نَسْياً مَنسيّاً.[21]
وثمّة موجّه آخر تمثّل في الشبه القائم بين غربته وغربة الأنبياء والصالحين ومنهم: نوح، وصالح، وموسى، وعيسى، ويوسف، وأيّوب، والحسين فهو بين المارقين أو (الكفرة الفجرة) كالأنبياء والصالحين تسامى على من أنكر صوت الحق قامة ومقاماً. وعلى الرغم من تمسّكه بتلك الموجّهات والمشبّهات إلا أنّه لم يستطعْ على الغربة في بلاده صبراً فشدّ الرحال مبحراً وهو العارف بالقرصنة التي تقوّض القلب في بحور الغربة، وهو العارف أنه الغريب الذي لا أرض له، ولا مستقر، ولا مَن يعينه على عذابه المقيم، وضياعه المكتوب:
أنا الغريب
لا أرض لي ولا هدف
لا وجهة ولا رغبة ولا قرار.
جرّبتُ الحكمةَ والغيبَ والنساء
واللهو والغنى والحروب
فلم أجدْ أيّ شيء يعينني
على عذابـي المقيمِ وضياعي المكتوب.[22]
وبقدر تأثير الغربة عليه كمحروم و"مفتون تتقاذفه الدروب والبلدان والسنين"[23]فإنّها احتضنت أغلب نتاجه الإبداعي مذ وطئت قدماه دروبها التي تقاذفته في لياليها جمراً، وثلوجاً، وبكاءً وقصائد ارتقت به سلّم الإبداع والشهرة سواء تلك التي كتبها باللغة العربية، أو التي ترجمها إلى اللغة الانكليزية. ومن مميزات ذلك النتاج الشعريّ أنه خصص أربعة مجاميع منه تضمنت كل مجموعة على موضوعة تشظّت إلى عدد من الموضوعات المختلفة مثل مجموعته (ديوان عربيّ) الذي انقسم على عدد من الدواوين الفرعية مثل: ديوان الأسئلة، ديوان المقابلات، ديوان الأشياء.. الخ. أما مجموعته الموسومة بـ (أخبار المعنى) فقد تضمّنت كل ما يتعلّق بالمعنى مثل: موت المعنى، أخطاء المعنى، صراخ المعنى، راء المعنى.. الخ. وتضمّنت مجموعة (النقطة) على محاولاته المختلفة مثل: محاولة في الرثاء، محاولة في الطيران، محاولة في الكتابة، محاولة في الحروف.. الخ. وأخيراً جاءت مجموعة (مواقف الألف) لتضمّ مواقفه المختلفة مثل: موقف الألف، موقف الظلام، موقف الكلام، موقف الجسد.. الخ. إنّ كل مجموعة من هذه المجاميع الأربع بموضوعاتها الرئيسة المختلفة، وطرق توزيعها وتقسيمها أكدّت، بما لا يقبل الشك: قدرةً شعرية كبيرة ومكنة أدائية عالية وفيضاً من الأفكار الراقية القادرة على الانفلاق، والاستنسال، والابتكار، والتألق، وشكّلت بحسب رؤيتنا لها مثابات شعرية مهمة، ومحطّات أساسيّة انطلقتْ منها قاطرات أديب الشعريّة مجددة مسارها على خطّ سيرته الحروفيّة.
سيرة ذات حروفيّة إذن هي قراءة تأمليّة في سيرة منجز أديب كمال الدين الإبداعي، ونتاجه الشعريّ بما حفل به من محاولات، ومعانٍ، ومواقف، وإشارات، ومغامرات، وسندباديات، وشطحات، وإشراقات، وغور في الحقيقة المطلقة. سيرة نأمل أن نكون قد وفّقنا في كتابتها بطريقتنا غير التقليدية.