كتاب " إشكالية الغياب : في حروفية أديب كمال الدين " ، تأليف صباح الأنباري ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب إشكالية الغياب : في حروفية أديب كمال الدين
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
إشكالية الغياب : في حروفية أديب كمال الدين
مفصل الغربة ومكابدتها
لم يطق الشاعر غربته بين ذويه. لقد شدّ الرحال إلى بلادٍ غربتها أهون عليه من غربة الوطن وهو العارف بالغربة القصوى:
أوقَفَني في موقفِ الغُربة
وقال: الغُربةُ تبدأُ من الروح
فحذارِ من غُربةِ الروحِ يا عبدي.[6]
تلك الغربة صبّتْ في نفسه بحاراً من الصخب القاتل، وجبالاً من الهموم، والشجن، والشعور بنهاية آتية لا ريب فيها، وبسببها لاذ، وهو الغريب، بأبسط الأشياء سعياً وراء عشبة الحياة. يقول في قصيدة (الغريب) سائلاً النبع:
هل عندكَ دواء للموت؟
• قالَ النبع: لا.
فضحكَ الغريبُ ثانيةً
حتّى اغرورقتْ عيناه بالدموع.[7]
في هذه الغربة القاتلة، استأثرت صور الموت بمساحات كبيرة من اشتغالاته الحروفيّة حتّى تحوّلت إلى موضوعة مركزية في أغلب إن لم أقل في كل تلك الاشتغالات. ولهذا وجدتُ أن من الأهمية بمكان تقصّي مدياتها في قصائده التي تناولت سيرته كحرف أول في أبجدية حياته الشعريّة، وكشخصية حروفيّة حاولت استقراء الموت.
ولا بد لنا أيضاً أن نشير ونحن نسترسل في صياغة سيرته الحروفيّة غير التقليدية إلى أن هذه الصياغة لا تعنى بسنيّ حياته وما جرى أو طرأ عليها، ولا بحلّه وترحاله، ولا بمن تأثر أو تتلمذ على يديه.. الخ.. الخ، وأنها فقط تتطرق إلى كل هذا وذاك ولكن من خلال منجزه الإبداعي الحافل بمكابدته، ومعاناته، وتجلّياته، وشطحاته، وأحلامه منذ طفولته الدّامعة وحتّى نهاية سلّمه الإبداعي المتجدد. وبدءًا من الطفولة تتحدد ظلال تلك المعاناة على صفحات قصائده الحزينة. يقول على لسان (يوسف الصدّيق) في نهاية قصيدته الموسومة بـ (العودة من البئر) متسائلاً:
لماذا كنتَ طيّباً
كطيبةِ دمعتِكَ الطاهرة؟
ولماذا أورثتني دمعتَكَ الطاهرة
يا أبـي؟[8]
ومن هذين السؤالين المنطويين على مرارة شديدة، ومعاناة قاسية يتضح مدى هيمنة اليتم على مسرّات الطفولة، وسطوة الدمع على مباهجها، وتأثيرهما البالغ على توصيف الشاعر الذي لا يني يكررهما في قصائد مجاميعه الشعريّة. يقول في قصيدته (محاولة في البهجة)[9]واصفاً الحرف الصغير "كان يلتمع أملاً كعيد طفل يتيم" ويشبّه الانتظار في قصيدة (صيحات النقطة) بانتظار اليتيم لأبيه[10]وفي قصيدة (محاولة في الطيران) يقول:
اكشفي عن أنانيتك
حتّى أريكِ يُتمي[11]
وفي قصيدة (محاولة في الموسيقى) يقول:
الموسيقى تجيء
فأقومُ من الموتِ إليها
لنلتقي طفلين يتيمين
يتحسّران على أرجوحةِ العيد.[12]
أما الدموع في حياته فإنّها تشغل المساحة الأوسع، وتكاد تكون من مركزيّات توصيفاته الشعريّة أيضاً ففي قصيدته (محاولة في الإبصار) على سبيل المثال استأثرت مفردة الدمع بأغلب مقاطعها فجاءت في الأول محاصرة إياه "الدمع حاصرني"، ووردت في المقطع الثاني كخرافة وطفولة وجنون وعمى، وفي المقطع الخامس وردت مرتين لتأكيد الانتباه "هلا انتبهت إلى دمعتك؟" وأخيرا في المقطع السادس وردت أربع مرات عثر عليهن الشاعر ككلمات، وحروف، ونقاط، ومشبّهاً بها "أخبرني يا عمري: يا جبل الدموع". وستظلّ هذه المفردة، بصيغ المفرد والمثنى والجمع، تتابعه في تحولاته. ففي قصيدة (موقف الخطأ) تتحوّل الدمعة إلى مصدر إدانة للشاعر الخطّاء من خلال التساؤل اليقيني: "كيفَ يحدثُ هذا ودمعتُكَ لا تفارقُ عينكَ؟" ويأتي هذا السؤال متقدما على سؤالين عن الكيفية المثيرة للتساؤل والعجب:
كيفَ يحدثُ هذا وشمسي تُحيطُ بقلبِك؟
كيفَ وقد عبرتَ سبعاً من لُغاتِ الجَمر،
وسبعاً من معارك الكَفَرةِ الفَجَرة،
وسبعاً من بوّاباتِ مدنِ السُفهاء،
وسبعاً من تُفّاحاتِ حَوّاء،
وسبعاً من سكاكين صويحباتِ يوسف؟[13]
لقد أضفى الرقم سبعة، في السؤال الثاني، بتكراره نوعاً من القداسة منحته تفوقاً، وطهراً، ومبالغة في الحصانة الذاتية، وليّ عنق الرغبة الجامحة، واغتلام الشهوة الفادحة كحالة تصوّفيّة أو ارتقائيّة مانحة إياه نقاءً، وصفاءً، وهدوءًا، ودفئا روحياً يبتغيه. ويقول في قصيدة (محاولة في الحروف) "بللني الدمع وطحنتني شمس آب"[14]وفي (محاولة في الرصاصة) يقول واصفاً تحوّلات قلبه:
كان لي قلب
حين كبرتُ تحوّلَ إلى عصفور
ثمّ إلى وردة
ثمّ إلى كلمة
فدمعةٍ ورغيف.[15]
للدمعة إذن فعل ساهم - بشكل أو بآخر - في بناء سيرة الشاعر، ودعمها بالصفات التي نـزّهته عن سواه من الناس، وقرّبته عن سواه إلى الله، ومنحته شرف القيام بالمحاولة في الرثاء، والسحر، والنقطة، والموسيقى، والعزلة، والصوت، والإبصار، والحُبّ، والرصاصة.. الخ.
وفي قصيدة (موقف الدمعة) توكيد لقدسيتها إذ ترد متجلّية بصوت الله الذي مزجها بالتراب ليكون طيناً، وليكون بشراً على درجة عالية من القداسة التي دونها قداسة الملائكة جميعاً. وليكون بسببها بَكّاءً في الولادة، والضياع، والارتباك، والوحشة، والظلم، والمرض حتّى يخال أنه مولود من دمعة لا من تراب:
أوقَفَني في موقفِ الدمعة
وقال: كم بكيتَ! وكم ستبكي!
فأنا خلقتُكَ من طين يا عبدي.
وكانت دمعتُكَ هي التي امتزجتْ
بالترابِ ليكون طينا[16]
لقد تضمّنتْ جملة مقال القول على فعلين: أحدهما أشار إلى ما مضى من البكاء، والآخر إلى ما سيأتي منه في دلالة واضحة لاستمرار هذا الفعل وتوطّنه في ذات (العبد) القلقة الذي يبيّن له المعبود جوهره الطيني. وما خاتمة (الموقف) في هذه القصيدة سوى توكيد لذلك الجوهر وإن جاء على شكل استفهاميّ: "أمِن دمعةٍ خَلَقتُكَ أم مِن طين؟" ذلك لغنى الخالق عن أيّ إجابة محتملة من جهة، ولإرادته في توضيح ما وقع فيه المخلوق من التباس القصد.
وفي قصيدة (محاولة في السّحر) تتحوّل دموع الشاعر "بقدرة قادر" عند المساء إلى سَحَرة، يسألونه عن سرّ بكائه فيمنحونه ما حُرم منه من ملابس الذهب، والطيران من غيمة إلى أخرى، وسرّ اللذة، وتحويل الحلم إلى يقين. وحين توسّطت الشمس السماء اختفى الذهب، وانقشع الغيم، وتوارت اللذة، وتبخّر اليقين: "فصرختُ يا دموعي" فقال السَحَرة:
سنعطيكَ حروفنا أيّهذا الـمُعَذّب
ونعلّمكَ نقاطنا أيّهذا المحروم[17]
لتبدأ انطلاقته الحروفيّة الساحرة التي ستسم كل مجاميعه اللاحقة بميسمها، وجموحها إلى منبع الأنوار، ومحاولاتها اجتراح الأسرار الخفية منذ مجموعته الثالثة (جيم)، ومنذ اشتغاله فيها على اشراقات (كهيعص) وتجلّيات (طلسم)، و(إشارات) التوحيديّ. وصارت هيئة الحرف لازمة لعنوانات مجاميعه فمن الـ (جيم) إلى الـ (النون) ومن النون إلى الـ (النقطة) ومن النقطة إلى الـ (حاء). ولم تخلُ عنوانات مجاميعه اللاحقة من الحرف أو النقطة أو (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة). وعندما اتسعت اشتغالاته نمت (شجرة الحروف) لتغطّي بفيئها الوارف كائناته الحروفيّة التي وضعها في (أربعون قصيدة عن الحرف) ثمّ جعل من الحرف مقصداً ومقال قول في (أقول الحرف وأعني أصابعي) أما ما يخصّ مواقفه فقد حددها في (مواقف الألف) مقتبساً جملة البدء فيها من النّفّريّ، وقد أكمل اشتغالاته تلك بـ (الحرف والغراب) وثمّة مجموعة أخرى تناولت معنى الحروف والنقاط وإن خلت عنونتها منهما كما في (أخبار المعنى).