كتاب " إشكالية الغياب : في حروفية أديب كمال الدين " ، تأليف صباح الأنباري ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب إشكالية الغياب : في حروفية أديب كمال الدين
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
إشكالية الغياب : في حروفية أديب كمال الدين
الفصل الثاني : تمهيد في الغياب، والتشاخص، والحروفيّة، والموت
"الموت هو الحرف الأعظم. إنّه الحرف الذي لا يسبقه حرف ولا يدانيه حرف. وكشاعر اتخذ الحرفَ وسيلةً فنيّةً وروحيّةً حتّى صرتُ بفضل ذلك أُدعى بـ (الحروفيّ)، أقول: إنّ الحرف والحروفيّة، بل الشعر والشعريّة، إنما هي احتجاج على الموت وتنديد به، ومحاولة للالتفاف عليه وتحجيمه وتخفيف سطوته وعنجهيّته وعبثيّته."[24]
أديب كمال الدين
أولاً: الغياب
لا وجود لما نسميه موتاً بغياب الكائن الحي. بل لا وجود لأيّ منهما بغياب الآخر فهما وجهان لعملة واحدة يستحيل الفصل بينهما على الرغم من اختلاف بعضهما عن بعضه الآخر في التفصيل والجوهر. أحدهما ديدنه الحركة الدائبة المستمرة التي لم ولن تتوقف على مرّ العصور والأزمنة. والآخر ديدنه السكون الذي لا قرار لسكونيّته على مرّ الأزمان والعصور. وثمّة تناقض ظاهر يحكمهما ويجعل الصراع بينهما قائماً لا محالة.
للغياب أوجه عديدة أكبرها وأكثرها تعقيداً وتأثيراً في الكائنات الحية هو الموت. وللموت أصابع من نار تطول الناس جميعاً، تقتنص بهجة أيامهم، وتبسط لهم كفاً من لظى الغياب للرحيل الأبديّ. كل ولادة جديدة للحياة تزيد تلك الأصابع ناراً واستئثاراً بفرصة إضافية للقبض عليها. وكلّما سقطت ورقة كائن من شجرة الحياة حضرت تلك الأصابع بعزرائيلية مرعبة لتمارس طقس فرحها الجهنمي في تغييب الروح. هذا الموت بوجهه الثابت أو بوجوهه المختلفة العجيبة، والغامضة هو ما استأثر بدراستنا التي سنشتغل فيها عليه كثيمة مركزية للغياب في قصائد الشاعر الحروفيّ أديب كمال الدين.
ومن أشكال الغياب التي خزنتها ذاكرتنا الجمعية (غيابة الجب) في قصة الصدّيق يوسف وهي من القصص القرآنية المعروفة التي بيّنت سبب اختيار الأخوة للبئر مكاناً لتغييب أخيهم وهم الذين يعرفون أنّ القتل غياب أبديّ، وأنّ في الجُبّ خياراً آخر مرهونا بمرور السيّارة والتقاطهم للمُغيّب. وتشكّل غيابة الجُبّ لأديب كمال الدين واحدة من أسوأ أمكنة التغييب لعمقها، وظلامها، وغموض ما فيها، وسريّة ما تدّخره من الأهوال والرعب والرهبة. وهي في الوقت نفسه رحم الأرض وحِضنها الرؤوم المستقر، وسرّتها، وموضع الأسرار الدفينة، فضلاً عن كونها التجويف المثير غريزياً. كما تحفظ ذاكرتنا الطفلية بعض ما سمعناه عن سكانها من الجن، والأشباح، و(الطناطلة) وما تزخر به من القصص العجيبة والغريبة.
في قصيدة (العودة من البئر) استحضر أديب كما الدين شخصية الصدّيق يوسف لتلقي أسئلة عتبها على الأب غيابياً:
لماذا تركتهم يلقونني في البئر؟
لماذا تركتهم يمزّقون قميصي؟
لماذا تركتهم يكذبون[25]
ومن سياق الأسئلة يبدو لنا السائل صبياً فطناً عارفاً بمسؤولية أبيه، وضعف أبيه، وبعدم قدرته على مقاومة سحر لثغتها، وأنوثتها الطاغية فهي هنا الأنثى المشتهاة، وهي خازن الأسرار، وسَقّاءَة الظمآن، وحاضنة المغيّب جزئياً أو كلياً. جاء في لسان العرب: "هي العادِيَّةُ القديمة لا يعلم لها حافر ولا مالك، فيقع فيها الإنسان أو غيره، فهو جُبار أي هَدَرٌ، وقيل: هو الأجير الذي ينـزل البئر فينقيها أو يخرج منها شيئاً وقع فيها فيموت". من الواضح أن أديب كمال الدين الذي اقتبس الحكاية من مصدرها القرآني لم يقتبسها حرفياً، أو لنقل أنه يروي الحكاية خارج سياقها المعروف بعد أن تماهت شخصيته مع شخصيتها الرئيسة. فإذا كان المصحف يروي عما حدّث ليوسف بطريقة الراوي العارف بكلّ شيء فإنّ أديب كمال الدين يروي عن نفسه بنفسه بطريقة أنا ضمير المتكلم:
صحتُ: سلاماً
إنني أهوي إلى القاع.
فهل سقطتْ دمعتُك
من بؤبؤ الحزنِ حتّى تراني؟[26]
في القصيدة ثمّة اتجاهان متعاكسان يشير الأول إلى الأعلى وفيه تصعد روح الأب إلى السماء، ويشير الثاني إلى الأسفل حيث علقت روح الأبن في غيابة الجُبّ وظلّت على حالها وهي تترقب العودة والخروج من قعر المأساة السوداء وزمهريرها الذي ابتليت به إلى حيث الحياة والدفء والنور الذي حُرِمتْ منه. في (قصيدتي الأزليّة) يكرر أديب كمال الدين الحكاية نفسها وما جرى له ولأبيه كما وردت في القرآن الكريم لكنه يبتكر لها نهاية أخرى تمثلّت في قول السيّارة:
ما قالوا: يا بشرى هذا غلام
بل قالوا: واأسفاه هذا هُلام.[27]
وحيث لا نفع للّسيّارة منه فقد تركوه في غيابة الجُبّ ومضوا لحال سبيلهم فظلّ على حاله يكابد أمر الدنيا والآخرة وإذ غادرها وهو يحمل منها جرحاً غائراً، تمنى لو أن في بيته بئراً أخرى غير التي احتضنته وضمته إلى صدرها بأذرع حجرية دون روح.
كلّما تذكّرتُ الماضي
وددتُ لو أنّ بئراً في البيت
لأنظر فيها وأمسح الذكريات بهدوء.[28]
فهو يبغي من البئر الثانية شفاءه مما ورث عن الأولى من الداء الممض وكأنّي به أراد أن يداويها "بالتي كانت هي الداء"[29]
لقد أثّرت فيه البئر تأثيراً مبيناً، وارتبطت عنده بالذاكرة ومفازاتها، وبالأسرار وغموضها، وبالطلاسم ومغاليقها، وبالأوصاف ومفرداتها، وبالغياب وآلامه المريرة حتّى حفرت لها في مخياله أكثر من صورة وصورة فها هو ذا في قصيدة (صورتان لبئر) يشبه بها ذكرى أنثاه قائلاً:
ذكراكِ تشبه بئراً مهجورة
تخرجُ منها الأشباحُ كلّ ليلة
لتعنّفني بإشاراتها وحركاتها[30]
ولما كانت البئر مرتبطة بشكل أو بآخر بأخيلتنا المجنّحة، وتصوراتنا لموجوداتها الرهيبة فأنّ الشاعر يلقي فيها الحجارة كل يوم لأربعين عاماً كي تخرج ما فيها من الأحلام والرؤى لكن السلاحف فقط هي التي تتحرك في غيابتها السوداء.
البئر كما نراها في قصائد أديب تمثل أسوأ حالات تغييب الطفولة، وحرمانها، ويتمها وهذا هو العامل المشترك الأعظم بين طفولته ويتمه وبين طفولة يوسف الصّدّيق ويتمه الإجباري. فالأول حُرم من أبيه الذي مات بين يديه وهو لا يزال طفلاً، والثاني حُرم من أبيه بتغييبه عنه في غيابة الجُبّ أولا وعيشه في بلاط العزيز ثانيا. وفي الحاليتين وقع فعل الغياب وأثره على طفولتهما المعذبة.
ومن أشكال الغياب في قصائد أديب كمال الدين أيضاً الغربة بوجوهها المختلفة وأشدّها تلك التي أشار إليها أبو حيّان التوحيديّ في كتابه (الإشارات الإلهيّة) حين قال:
"أغرب الغرباء من كان غريباً في وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيداً من محلّ قربه.. لأن غاية المجهود أن يسلو عن الموجود، ويغمض عن المشهود، ويُقصَى عن المعهود.. يا هذا.. الغريب من إذا ذكر الحق هُجِرَ وإذا دعا إلى الحق زُجِرَ"[31]
وأشار إليها أديب كمال الدين في مواقفه قائلاً:
أوقَفَني في موقفِ الغُربة
وقال: الغُربةُ تبدأُ من الروح
فحذارِ من غُربةِ الروحِ يا عبدي[32]
كما أشرنا إليها في اشتغالنا على سيرة الشاعر الإبداعيّة. وستأتي ضمناً في اشتغالنا اللاحق على الثيمة المركزية لدراستنا.