كتاب " ما ورائية التأويل الغربي " ، تأليف د.
أنت هنا
قراءة كتاب ما ورائية التأويل الغربي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أولا: المرجع والمصير، فقد جاء في لسان العرب «أول: الأول: الرجوع. آل الشيء أولا ومآلا: أرجع وأول إليه الشيء: أرجعه وآلت عن الشيء: ارتددت وفي الحديث من صام الدهر فلا صام ولا آل: أي رجع إلى خبر، والأول الرجوع. وفي حديث خزيمة السلمي: حتى آل السلامي أي رجع إليه...»19، ويؤكد الزمخشري (ت 538هـ) هذا المعنى فيقول «... ويقال أول الحكم إلى أهله: رده إليهم وفي الدعاء للمضل أول الله عليك، أي ردّ عليك ضالتك... ومن المجاز فلان يؤول إلى كرم، ومالك، تؤول إلى كتفيك إذ انضم إليهما وأجتمع...»20.
ثانيا: التغيير: آل اللبن أي خثر، وآل جسم الرجل أذا نحف؛ وهاتان الدلالتان هما الغالبتان، وأن كانت الثانية لا تبتعد عن الأول كثيرا ففي معنى التغيير الصيرورة والرجوع إلى كذا، وهنا يمكننا أن نحصر الدلالتان في المعنى اللغوي (المرجع، أو المصير، العاقبة).
ثالثا: الوضوح والظهور، آلال الشّخص، وهو ما تراه في أول النهار وآخره ويرفع الشخوص21.
رابعا: التفسير والتدبير: التأويل: تفسير ما يؤول إليه الشيء تقول تأولت في فلان الأمر أي تحريت، يقول الزمخشري «... وتأملته فتأولت فيه الخير أي توسمته وتحريته»22، وهناك من يعود بأصله إلى «الآيالة، وهي السياسة، كأن المؤول للكلام ساس الكلام ووضع المعنى فيه موضعه»23.
وهما دلالات قريبة فلا يخرج التفسير عن معنى الظهور والوضوح ويمكن إدماجها في دلالة واحدة وهي التفسير والتدبير24، وبناء على دلالة المعنى اللغوي الذي يمكن أن نحصره في عدة معان (المرجع والمصير والتفسير والتدبير والتأمل والسياسة) والتي تشي بالأول أي ابتداء الأمر وانتهائه.
هذا هو أساس المصطلح بوصفه وحدة لغوية من حيث الاشتقاق اللفظي لمنطقة عمله في المعجم العربي، التي لا يمكن حصرها في الإشارة اللغوية فقط ألا أن حياة أو صيرورة كلمة التأويل لم تستعمل «بعدّها مصطلحا في البنية اللغوية بقدر ما استعمل في الدراسات الإسلامية، ولا عزو في هذه، فالعلوم اللغوية لم تقم ألا لخدمة النص القرآني»25، الذي حافظ في مساره الأول على أشارة الكلمة ودلالتها اللغوية؛ لذلك فإن أكثر الباحثين يقسمون أو يمرحلونه من خلال قيمته التداولية التي سرعان ما ذابت وانصهرت في السيرورة التاريخية والثقافية ومخاضاتها المختلفة التي ساعدت على ارتباطه بقوالب اصطلاحية ترسم حدوده على وفق التطبيقات والمسارات الفكرية في منظومة خطاب العقائد الإسلامية التي ترعرع فيها المصطلح مع تطوره المفهومي الجنيني اللغوي واصطدامه مع القضايا والإشارات ليصبح مصطلحا مكتملا يقع عليه الاتفاق بين كل الفرقاء والمذاهب، وأن اختلفوا في تطبيقاته.26
ولنا أن نتصور مرحلته الأولى قد امتازت «بكون المصطلح حمل فيها على دلالته اللغوية الأصلية»27، وأن اتسعت دائرة الإشارة اللغوية من خلال الاستعمال القرآني ومقاربة المفسرين وترسيم دلالته أو معانيه من خلال سياق النص القرآني «ولقد وردت لفظة التأويل في القرآن الكريم في ستة عشر موضعاً28، على معان مختلفة تكاد تجمع عليها جلّ المدارس الإسلامية في التفسير على الرغم من اختلافاتها المنهجية ومقاصدها التفسيرية «29، ولو تتبعنا استعمالها في القرآن الكريم يكاد أن ينحصر في دائرة المعنى المطروق في المعاجم اللغوية، وعلى هذا الأساس فإننا سنقتصر على بعض المعاني التي أغنته وأثرته استعمالات النص والسياق القرآني، ففي قوله (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53) ) (الأعراف: 52–53)، فالتأويل في هذه الآية مجيء ما أخبر القرآن بوقوعه من القيامة واشراطها، وهذا القدر الذي اخبر به القرآن من هذه الأمور لا يعلم وقتها ووضعها الا الله30، والإشارة اللغوية لكلمة التأويل في سياق هذه الآية تنطوي على أن التأويل هو «الأمر العيني الخارجي الذي يعتمد عليه الكلام وهو في مورد الأخبار المخبر به الواقع في الخارج، أما سابقا كقصص الأنبياء والأمم الماضية... وكل ما سيظهر يوم القيامة في ما ورد في الأنبياء كآيات الأحكام الصالحة المتحققة في الخارج»31، ويتسق هذا المعنى مع سياق قول يوسف لرفقائه في السجن بعد أن أخبروه برؤاهم في النوم: -
قوله تعالى (قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون) (يوسف: 37)، ومعنى « التأويل في هذا السياق الأخبار عن (حدوث) أمر قبل وقوعه بالفعل، ويوسف عليه السلام هنا يؤكد لزملائه في السجن قدراته التأويلية... في الأخبار عن الأشياء قبل حدوثها «32 ولا يمكن أن نقتصر على هذا المعنى في سورة يوسف، بل إنه تجاوز ذلك في إشارته إلى تفسير الأحلام أو تأويل الأحاديث، ويشير نصر حامد أبو زيد إلى أن ورود كلمة تفسير مرة واحدة في القرآن والتأويل سبع عشرة مرات « يدل على أن كلمة تأويل كانت أكثر دورانا في اللغة بشكل عام - وفي النص بشكل خاص – من دوران كلمة تفسير ولعل السر وراء هذا الدوران أن التأويل كان مفهوما معروفا في الثقافة قبل الإسلام ارتبط بتفسير الأحلام أو تأويل الأحاديث كما نعلم من تأويل رؤيا ربيعة بن مضر التي قام بها كل من سطيع وشق بن انمار»33، فضلا عن تأويلات أخرى ذكرت في مدونات التراث كرؤية عبد المطلب جد الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) وقصته مع حفر بئر زمزم، وعاتكة عمة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) قبل معركة أحد وهناك روايات كثيرة تذكر أن بدايات أو إرهاصات النبوة كانت عبارة عن رؤية لرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) متحققة34، ولو وسعنا الرؤية لوجدنا أنها ظاهرة موجودة في الشرق كله مرتبطة عند الفرس والهنود بالسحر والطلاسم والتنجيم.
وفي سورة يوسف نجد أن نواة أو بناء القصة متبئرا في حلم يوسف في بداية أو عتبة القصة، وهو الحلم الذي تحقق تأويله في نهاية القصة في قوله تعالى (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ*)(يوسف: 4)، وليس تأويل الأحاديث ألا تأويل الأحلام في هذا السياق، إذ إن تأويل الأحلام يكون بوساطة أو وسيط لغوي أو كلام وهو الحديث، ويعود ذلك إلى أن المؤول لا يؤول الحلم إنما يؤول الحديث أو الكلام؛ لذلك كانت دلالة الحلم أو معناه قائما على طريقة سرده، وأن كان يدخل فيه السياق أو الظروف الخارجي، وهكذا نتلمس في سورة يوسف أن تأويل الأحلام والرؤيا والأحاديث بدلالات متقاربة جدا 35 ويتجاوب مع هذا الاستعمال الذي يكون موضوع التأويل فيه (حدثاً) لم يقع بعد كتأويل الأفعال في سورة الكهف؛ الأفعال التي قام بها العبد الصالح من قتل الغلام وخرق السفينة وإقامة الجدار 36، إذ تشير الآيات إلى دلالة التأويل في أصله أو كينونته اللغوية « من الأول، ومعنى: ما تأويل هذا الكلام؟ أي إلام تؤول العاقبة في المراد به؟ كما قال تعالى (يوم يأتي تأويله) (الأعراف: 53) أي يكشف عاقبته، ويقال آل الأمر إلى كذا أي؛ صار إليه وقال تعالى (ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ْ) (الكهف: 82) وأصله من المآل، وهو العاقبة والمصير»37، إذ إن معنى التأويل هو «العودة إلى أصل الشيء سواء كان فعلا أم حديثا ذلك لاكتشاف دلالته ومغزاه هكذا أول العبد الصالح أفعاله بالكشف عن أسبابها وعللها الحقيقية»38 ويتبع هذا المعنى أيضا «الوصول إلى هدف وغاية»39، وتتسق فعالية استعمال السلف للتأويل مع حالة استقرار المصطلح على معنى «التفسير والإيضاح والتدبر في عهد الصحابة والتابعين (القرون الثلاثة الأولى)»40، التي حددتها مرجعية الدلالة المعجمية والسياقية بشقيها السياق الثقافي والاجتماعي والفكري وسياق النص القرآني، إذ يشير أبن تيمية رحمه الله إلى أن « التأويل في لفظ السلف له معنيان: أحدهما تفسير الكلام وبيان معناه سواء وافق ظاهره أو خالفه فيكون التأويل عند هؤلاء متقاربا أو مترادفا مع التفسير، وهذا – والله أعلم – هو الذي عناه مجاهد أن العلماء يعلمون تأويله، ومحمد بن جرير الطبري يقول في تفسيره: القول في تأويل كذا وكذا واختلف أهل التأويل في هذه الآية ونحو ذلك ومراده التفسير، والمعنى الثاني في لفظ السلف هو الثالث من مسمى التأويل مطلقا هو نفس المراد بالكلام، فإن الكلام إذ كان طلبا كان تأويله الفعل المطلوب نفسه، وأن كان خبرا كان تأويله الشيء المخبر به نفسه «41، ويكشف أبن تيمية أن بين المعنى الأول والثاني عند السلف بونا واسعا؛ وذلك لأن التأويل في المعنى الأول هو من باب العلم والكلام كالتفسير والإيضاح ويكون وجوده في القلب واللسان فهو له الوجود الذهني واللفظي والرسمي، أما التأويل في المعنى الثاني فهو الأمور الموجودة في الخارج نفسها، سواء كانت ماضية أو مستقبلية 42، ولعل هذه النواة الدلالية الواحدة التي جمعت ما بين التفسير والتأويل بوصفهما مترادفان فرضتها التداخلات والتجاوزات في المنبع أو الأصل اللغوي الذي يلتقي فيه بعض مرادفات المعاني المعجمية معا مما أفضى إلى ظاهرة الاضطراب الاصطلاحي في العودة إلى المنبع وحصرهما في فعل دلالي واحد، مما أدى بأبي فارس إلى القول بأن « التأويل والمعنى والتفسير واحد «43، وهو أمر « عزيزا علينا أن نوافق عليه لأن أدراج هذه المفاهيم الثلاث تحت دلالة واحدة لا يعني شيئا ذا بال لأن المعنى يتمخض غالبا إلى جزئيات الدلالة المتحققة للفظ بعينه، بينما التفسير إنما يتمخض في الثقافة الإسلامية إلى الأجراء الذي يعمد إلى قراءة القرآن العظيم وابتغاء إفهامه إلى الناس وتبسيط نصه لعوام القراء، في حين التأويل علم قائم بذاته لدى المسلمين «44، في مراحل « حمل فيها المصطلح التأويلي على دلالته الاصطلاحية الحادثة «45، ولاسيما في عرف المتأخرين المتفقهة والمتكلمة وأهل الحديث والمتصوفة ونحوهم: هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به، وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف، والتي بدأت منذ مدة باكرة جدا وارتبط بالتأويل والخلاف «حول المحكم والمتشابه من جهة، وبالخلافات السياسية والعقائدية من جهة أخرى»46، وهو ما يؤكده الطبري في أن أبن عباس قد « ذكر عنده الخوارج وما يلفقون عن القرآن فقال: يؤمنون بمحكمه ويهلكون عند متشابهه «47، ولعل من المفيد ومادامت قضية المحكم والمتشابه قد ارتبطت بصورة ما بالنزاع السياسي، فإننا سنستعرض خلاف المفسرين حول أمرين يتصلين بهذه القضية الأمر الأول الخلاف حول تعريف المحكم والمتشابه، والثاني حول إمكانية معرفة المتشابه من خلال إعرابه النحوي48، إذ يفصل السيوطي في مسألة المحكم والمتشابه إلى ثلاثة مسائل: