أنت هنا

قراءة كتاب ما ورائية التأويل الغربي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
ما ورائية التأويل الغربي

ما ورائية التأويل الغربي

كتاب " ما ورائية التأويل الغربي " ، تأليف د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 9

ويردنا المنحى التاريخي الجينالوجي لمصطلح التأويل ومسيرة تطوره التاريخي من خلال المماحكة والاحتكاك الثقافي والحضاري الذي أغناه وكثف دلالته التي أتفتحت وانصهرت في منظومة خطابات وثقافات فلسفية وهرمسية (عرفانية) ومنطقية عملت على رسم حدود المصطلح ضمن تكتونية جغرافية لغوية ودلالية حافظت على كينونة وماهية المصطلح المركزية المتفق عليها من جميع المذاهب، ولو انتخبنا مجموعة من التعاريف الاصطلاحية عند الأصوليين والمتكلمين والبلاغيين والفلاسفة: فإنها تنحصر في حدود صرف اللفظ من معناه الظاهر إلى الباطن أو معنى يقاربه أو يحتمله، فقد عرف البغوي بأن «التأويل صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وما بعدها تحتمله الآية غير مخالف للكتاب من طريق الاستنباط»63، وعرفه الطبرسي فقال «التأويل رد احد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر»64، وحده الإمام الغزالي في أنه «عبارة عن أحتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي يدل عليه الظاهر»65، ويحصره أبن حزم الظاهري في «نقل اللفظ عما اقتضاه ظاهره وعم وضع له في اللغة إلى معنى آخر، فإن كان نقله قد صح ببرهان وكان ناقله واجب الطاعة فهو حق، وأن كان نقله بخلاف ذلك طرح ولم يلتفت إليه وحكم بذلك النقل أنه باطل»66، والتأويل عند أبن رشد يتبلور في «أخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقة إلى الدلالة المجازية من غير أن تميل ذلك بعبارة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو لصيقة أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عدت في تعريف أصناف الكلام المجازي»67، ولقد عد ابن رشد التفلسف في جانب أساسي منه تأويلا وعبورا من المجاز إلى البرهان.

ولو تأملنا تعاريف التأويل المذكورة آنفا لتجلى لنا عند معظم العلماء بأنه تفسير أو تأويل الآية بمعنى غير المعنى الذي يقتضيه ظاهره بموجب دليل يقتضي صرف معنى ظاهر اللفظ إلى معنى آخر، والا كان التأويل فاسدا ومن أجل هذا فرق وميز العلماء بين التفسير والتأويل فقال الراغب الأصفهاني «التفسير أعم من التأويل، وأكثر استعماله في الألفاظ وأكثر استعمال التأويل في المعاني كتأويل الرؤيا، وأكثر يستعمل في الكتب الإلهية، والتفسير يستعمل في غيرها والتفسير أكثر ما يستعمل في معاني مفردات الألفاظ»68، ويشير القشيري إلى أن «التفسير مقصور على الأتباع والسماع، والاستنباط مما يتعلق بالتأويل»69، ويزيد بعضهم قدرة التأويل بارتباطه بسياقات تتجاوز المعنى إلى الفهم إذ إن «التفسير يتعلق بالرواية، والتأويل يتعلق بالدراية»70، كما إن «التفسير هو الأخبار عن أفراد آحاد الجملة، والتأويل الأخبار بمعنى الكلام وقيل التفسير أفراد ما أنتظم ظاهر التنزيل، والتأويل الأخبار بغرض المتكلم بكلام»71، ولعل الفرق بين التفسير والتأويل من خلال آراء العلماء يقدم صورة متناقضة بين من يعدهما (التفسير والتأويل) مترادفين من خلال مرجعية معجمية تتجلى في أحدى دلالات المعنى المعجمي المرتبطة ما بين التأويل والتفسير الا هو المعنى اللغوي (الوضوح) إذ تشير الأوضاع اللغوي في الاشتقاق والتركيب إلى المعنى من غير التوسل بالآليات الاستدلالية الذهنية أو اللغوية، ولقد ذهب أبن تيمية إلى إن هذا هو المقصود من مصطلح التأويل «عند مجاهد والطبري»72، وهذا ما حمل أكثر علماء القدامى والمحدثين ومن ضمنهم مسلم آل جعفر وآخرين73 إلى القول إن التفسير والتأويل مترادفا مؤكدا أن « الفرق السائد بين العلماء هو أن التفسير والتأويل واحد، لأنهم يسمون التفاسير جميع الكتب التي تتعرض للقرآن الكريم بتوضيح لفظ أو أظهار معنى لنص قراني والعمل الذي يقوم به الشخص يطلقون عليه تفسيرا، كما إن مؤلفي التفاسير سموها بأسماء لا تتنبىء بالتفرقة بينهما فتفسير الزمخشري أسمه (الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل) والبيضاوي سمى تفسيره (أنوار التنزيل وأسرار التأويل) وهذان العنوانان لا يدلان على أن صاحبهما اقتصرا على من المعاني الذي يتميز فيه كتاب أي منهما بعده تأويلا دون التفسير أو العكس «74، ولا نذهب بعيدا أن قلنا إن هذا الرأي بعيدا عن الصواب؛ لأن المعطيات الموضوعية لا تنسجم معه إذ كل من تفسير الزمخشري والبيضاوي مقصودا به التأويل وليس التفسير أو الترادف بينهما، إذ انطلقنا من مشروعهما العقائدي المعتزلي الذي كان أكثر علمائه يفرقون بين التأويل والتفسير لينسجم مع مشروعهم في التأويل العقلي الذي يتخذ من المعنى المعقول والمجاز اللغوي طريقا لا يحدون عنه، فضلا عن أن تفسير الزمخشري والبيضاوي قائما على أنظمة معرفية وبيانية تنسجم مع العقل والمجاز المعتزلي منطلقة من المجاز والعقل، وهذا ما يفند تصور آل جعفر الذي بنى رأيه على تصور المعنى المعجمي الذي يرتبط بمعنى الوضوح للمصطلح وليس المعنى الاصطلاحي.

أما الجانب الثاني في رأي آل جعفر فقد تطرق إلى أن « الاصطلاح العلمي الذي سار عليه العلماء والذي لا يزال ساريا إلى اليوم أن التأويل والتفسير واحدفقولنا تفسير الآية أو تأويل الآية تعني شيئا واحد وأنهما متكاملان لا يستغني أحدهما عن الآخر وخاصة بالنسبة للقرآن الكريم «75، وهذا الرأي كذلك لا نتفق معه؛ لأن مصطلح التأويل في الوقت الحاضر قد ارتسمت حدوده في كينونة اصطلاحية تبتعد به عن تخوم التفسير لاسيما بعد أن تداخل في علوم كثيرة كالفلسفة والنقد الأدبي، والعلوم الدينية، والفنون، والتاريخ وغيرها، فضلا عن أن العلماء في الوقت الحاضر قد وضعوا حدود ورسوم ميزوا بها بين مصطلحي التأويل والتفسير.

وبناء على ما تقدم من النصوص التي تناولت التفسير والتأويل يمكننا القول بأن العلماء القدامى قد فرقوا وميزوا بين التفسير والتأويل الذي تحقق في ثلاث ثنائيات متوازية ومتناقضة تنسجم مع حالة التطور والجدل الذي رافق مقاربة النص القرآني والظروف السياسية والاجتماعية التي بلورت ثنائية الظاهر/الباطن، النقل/العقل، العموم/الخصوص، والتي يمكن عدها بمثابة الحضور والغياب الذي يمكن تتبعه في جذور الخلاف المؤدي إلى بروز إشكالية تعارض العقل والنقل (الوحي/العقل)، المحددة بصورتها العامة ومتجسدة في قدرة العقل على مواجهة الوحي، وهي قضية شغلت منذ القدم وما زالت تشغل علماء الأمة ومفكريها متخذة عدة صور ذابت في متون الخطاب الأصولي الذي أدى بها إلى أن تنتحل أسماء متغايرة ما بين السمع والعقل، أو النقل والعقل، أو الخبر والعقل، أو الذات والموضوع 76، متجلية بصور مرتبطة بالمذاهب والفرق الإسلامية وتوجهاتها الفكرية والعقائدية وأنظمتها المعرفية التي تتماهى على وفق معطيات عتبة الانطلاق من العقل أو من النقل، أو تقديم النقل على العقل مما أدى إلى تكوين مدرستين مختلفتين في معطياتها المعرفية والدينية مدرسة العقل أو الرأي ومركزها الكوفة، ومدرسة النقل ومركزها الحجاز، إذ عملت كل مدرسة من خلال أطروحاتها التي تجسدت في التفريق بين التفسير والتأويل في عملية متبادلة تعلو من شأن التفسير وتقلل من قيمة التأويل أو العكس مفترقة على أساس موضوعية مدرسة النقل، وذاتية مدرسة الرأي، فالموضوعية التي تعنى بها مدرسة النقل موضوعية تاريخية تفترض إمكانية تجاوز المفسر أطار واقعه التاريخي وهموم عصره، وفهمه للنص كما فهموه الصحابة أو معاصريه في إطاره اللغوي والتاريخي وعصر النزول؛ لأنه ينطلق من مسلمة متجسدة في أن النص صالح لكل زمان ومكان ويحتوي كل الحقائق والمعارف المتبلورة في المعرفة الدينية الثابتة التي لا تتطور؛ لأن جيل الصحابة والتابعين قد أتوا المعرفة الكاملة التامة فيما يتصف بالوحي ومعناه، وواقع الأمر أن الأعتماد على تفسير السلف والتابعين لا يخلو عند أصحاب هذا الموقف من تصور تأويلي، لكون عملية الاختيار ما بين آراء الصحابة التي تعتمد على الترجيح ما بينهم تشكل كينونة أو موقفا تأويليا ينسجم مع هموم المفسر وإطاره الفكري والثقافي، وبذلك فإن المفسر في علاقته مع النص لا يستطيع تجاوز أو تجاهل البعد التاريخي الذي يفصله عن زمن النص ولا أن يحل نفسه في الماضي وصولا إلى موضوعية مطلقة في فهم النص77، ويتمخض عن ذلك علاقة تفاعلية جدلية بين الذاتية والموضوعية (التفسير والتأويل) ترسم وتحدد استعمال التفسير والتأويل في علاقة مترابطة لا تتخلى أحداهما عن الأخرى في تركيب تأويلي يتجلى لنا في أن المفسر يقف عند حدود علوم القرآن (علوم اللغة) معتمدا في معرفته الأولى على الرواية متبعا جهود علماء اللغة؛ لأنها لها علاقة مع النص القرآني الذي يتناوله من جوانبه المختلفة78، مظهرة الموضوعية التفسيرية المقترنة بالنص الذي يمثل المرحلة الأولى لفهمه وتحليله وهو بمثابة « تجميع بيانات النص، ولا يفترق التفسير عن النص سواء كان محدودا أو متسعا ولا يحتاج التفسير إلى آليات معقدة للكشف عن النص ومقتصرا دوره على استجلاء معانيه «79، والتي تتحقق من خلال صيّغه الصرفية، واللغوية، والإعراب، والنحو، والبلاغة، وأن هذه العملية أو المرحلة الأولى لا يمكن للتفسير أن يولج بها أبعادا عميقة وباطنية تحتاج إلى حركة الذهن أو العقل إزاء النص «.إنها الأبعاد التي تحتاج إلى حركة التأويل بعد أن يستنفذ المفسر بأدواته العلمية كل إمكانيات الدلالة التي يمكن اكتشافها بواسطة هذه العلوم «80، وبذلك يقترن التأويل بالنصوص الكثيفة المعاني المتعدية بأفكارها نطاق اللفظ الظاهر وهو المرحلة التي تستثمر النص 81، في أجراء أو آلية تأويلية ترتبط بالاستنباط تكمن في بعد من أبعاد عملية التأويل متجسدة « في دور القارئ في مواجهة النص والكشف عن دلالته «82، وأن هذا الدور للقارئ ليس مطلقا أو قائما على الأهواء الذاتية إنما يخضع لضوابط تأويلية تتمظهر في الحد من حرية المؤول مستثمرة مقصدية النص ومقاصد المؤلف وأفق الانتظار83، وتترتب بالضرورة بمعرفة متعلقة بالنص تتبلور تحت مفهوم التفسير إذ « إن المؤول لابد أن يكون على علم بالتفسير «84، الذي يعد بمثابة المسار التعضيدي الذي يقدم للتأويل بيانات التحليل العلمي ليشكل «التأويل المحاولة لأكتمال الفهم والتحليل بعد التفسير «85، مما يظهر أن التفسير حركة ظاهرية أفقية على سطح النص تعمل على وفق نطاق المتبادر والمعاني المباشرة؛ لذلك فإنها فاعلية قطعية وأغلب آلياتها جزء من علم النص (الأدوات اللغوية) الكاشفة عن معانيها المتجلية على سطح وتضاريس النص، أما التأويل فهو حركة عمودية في طبقات النص وأعماقه يعمل في نطاق ما بعد المتبادر وغير مباشر من المعاني 86؛ لذلك فهو فاعلية إجتهادية أغلب آلياته عقلية وفلسفية ترتبط بالمجاز والتصوف الذي يبحث عن المعني المتوارية في أعماق النص 87، مما حد بالتأويل إلى أن يخضع لضوابط محددة بدقة تمنعه من الانجراف في متاهات قراءات لانهائية وغير محددة تذهب بالتأويل بعيدا عن معطيات النص التي تقدمها القراءة التفسيرية التي تعمل على وفق عمومية أفقية المسار يدخل التأويل معها في تماس عمودي مع النص يقطعه هندسيا في نقطة التقاء تتبلور على سطحه (النص، في مرحلة الاستنباط، والتفكير، والتأويل الذي لا يعمل ما لم يعتمد على المسار الأفقي للنص، لأن التأويل له خصوصية عمودية المسار.

الصفحات