كتاب " ما ورائية التأويل الغربي " ، تأليف د.
أنت هنا
قراءة كتاب ما ورائية التأويل الغربي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أحدهما: إن القران كله محكم في قوله تعالى (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) (هود: 1)
الثاني: كله متشابه لقوله تعالى (كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ) (الزمر: 23)
والثالث: وهو الصحيح الذي انقسم إلى محكم ومتشابه في قوله تعالى (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (7)) (آل عمران: 7).
والفيصل في ذلك أن المراد بإحكامه إتقانه وعدم تطرق النقض والاختلاف إليه وبتشابهه: كونه يشبه بعضه بعضا في الحق والصدق والإعجاز، ولقد أختلف العلماء في تعيين المحكم والمتشابه، فقيل المحكم ماعُرف المراد منه، أما بالظهور وأما بالتأويل. والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة وخروج الدجال والحروف المقطعة في أوائل السور، وهناك من يقول إن المحكم ما وضح معناه والمتشابه نقيضه، أو أن المحكم لا يحتمل من التأويل ألا وجها واحدا، والمتشابه ما احتمل أوجها حتى هناك من يجد المحكم ما كان معقول المعنى وما استقل بنفسه وما تأويله تنزيله وما لم تتكرر ألفاظه والمتشابه ما يناقض الأوصاف التي ذكرناها غير أن محاولة تأويل القرآن أو الخلاف حول المحكم والمتشابه ترتبط بزمن نزول القرآن نفسه وهذا ما أفضى بابن عباس أن يضع معايير وقواعد في معرفة المحكم والمتشابه في قوله «المحكمات ناسخه، وحلاله، وحرامه، وحدوده، وفرائضه، وما يؤمن به ويعمل به، أما المتشابهات ففي منسوخة ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه، وما يؤمن به ولا يعمل به»49، ومعنى ذلك أن «المحكم عند ابن عباس هو الآيات التي يؤمن بها ويعمل بها وهي آيات الأحكام التي تحدد الحلال والحرام أو بمعنى آخر هي آيات التشريع العملي، أما المتشابهات فهي تلك الآيات التي يؤمن بها ولا يعمل بها أو هي التي لا تتصل بالشريعة سواء أكانت منسوخة عن حكمها وبقيت في رسم المصحف للتلاوة فقط، أم كانت من غير آيات الأحكام أصلا، ويدخل ابن عباس في المشابهات المقدم والمؤخر والأمثال والقسم كلها ظواهر أسلوبية ستدخل فيها الإعراب النحوي و» المجاز عند أبي عبيدة والفراء والجاحظ وابن قتيبة وسيصبح المجاز كله وسيلة للتأويل عند القاضي عبد الجبار»50؛ وبذلك يحدد مسار المجاز دائرة مشكل التأويل التي تصدى لها المعتزلة والتي كانت بمثابة شغل البلاغة القرآنية والعربية ومركز مدار التأويل بسياق دائري تتحكم فيه أنظمة معرفية في منظومة الخطاب الإسلامي، والتي يمكن أن تتحدد على وفق إتجاهات ارتبطت بصيرورة تاريخية وفكرية وثقافية في آلية أو إجرائية التعامل مع النص القرآني فقد كانت في البداية إشكالية «بيان: ويتجه فيه التأويل من أولية اللفظ إلى أولية الدلالة ومركزه اللغة، وعقلي يتجه فيه التأويل من أولية اللفظ إلى أولية المعقول ومركزه المنطق، والصوفي يتجه فيه التأويل من أولية الظاهرة إلى أولية الباطن ومركزه الحقيقة، وباطني ويتجه فيه التأويل من أولية المعنى إلى أولية ما وراء المعنى ومركزه المعرفة»51، ولقد أبرز العلماء أن «فن البيان من أهم الفنون التي لا يجوز أن يستغني عنها المؤول بعُده أداة لفهم التراكيب وخواصها»52، وإذ كان كل من أبي عبيدة والفراء وقبلهما الحسن البصري لم يربطوا تأويلاتهم بقانون عام أو «ضوابط منهجية ثابتة، فإن المعتزلة بسبب اعتمادهم على العقل حاولوا أن يضعوا أصول عامة للتأويل تمكنهم من تأويل آيات القران الكريم تأويلا يتفق مع أصولهم العقلية في العدل والتوحيد وفي الوقت نفسه تمنع خصومهم من الاستدلال والتأويل على عكس هذه الأصول أو ضدها، ولقد أجمع الدارسون، على أنهم وجدوا في المحكم والمتشابه هذه المشكلة القديمة، منفذا لإرساء ضوابط للتأويل»53، متبلورة بشكل مسارات في حركة الأنظمة المعرفية التي تطورت في صيرورتها الحضارية والثقافية متشكلة التأويل في صيغة مركزية اللغة، والمنطق، والحقيقة، والمعرفة التي وسمت بالتأويل البلاغي (البياني) والتأويل العقلي، والصوفي، والباطني، وبالمعاينة الابستومولوجية التي تتبلور في رؤية البيان بوصفه آلية أساستها البلاغة مشكلة اللغة إطارها المرجعي قبل أن يخترق البرهان نطاق البيان بتعقيداته اللفظية ومقولاته الميتافيزيقية، مضفية نوع من منطقية البيان بعد أن تجاوز المعنى إلى المجاز (ميتا لغة) مضفيا معنا جديدا إلى معنى الحقيقة منحرفا عن معيار الفصاحة، والتي يشكل السلطة المعرفية فيها مفاصل قوة تعبيرية واقناعية وكشفية، فاللغة البيانية قائمة على الإفصاح وعن المعنى بإثبات دلالته بوصفه معيارا للحقيقة ذاتها مما أدى إلى أن يتجه البيان إلى مسار أو طريق آخر منطلقا من اللفظ إلى الدلالة متجاوزا العناية بمقام الشريعة مستندا إلى مبدأ السببية أو مبدأ التجاوز والقول بالعرف أو العادة اللغوية مما تمخض عنه انقسام المجاز إلى مجاز لغوي ومجاز عقلي ويعد المجاز العقلي عند السكاكي «ضربا من التأويل»54، متجانسا مع منظومة البيان البلاغية التي تمركزت حول المعنى الذي أكتسى المعنى فيه طرق تعبيرية بوجوه مختلفة، والعمل على كشف المعنى المقصود وإظهار دلالة الشيء عليه، وأن هذا الإتجاه البياني من اللفظ إلى الدلالة همش الدلالة الكلية المتمثلة في مقاصد الشريعة، والتي تنبها إليها الشافعي في معاني الشريعة والتي تسمى عللا إذ كان السلف قبله لا يستعملون لفظة علة إنما يستعملون المعنى فكانت اللغة بذلك مركز مدار التأويل البياني بوصفها واسطة أو كينونة، فارضة إشكالية الدلالة المتحايثة مع التأويل البياني مطورة إشكالية المنطق في التأويل العقلي، إذ إن آلية المنطق أوجدت علاقة جديدة بين اللفظ والمعنى متحولة إلى علاقة بين منطق اللغة والعقل، عاكسة الإتجاه أو نقطة الانطلاق من المعنى إلى اللفظ عكس انطلاقة التأويل البياني من اللفظ والمعنى، ونظرا لهذا التأسيس الجديد الذي أدى إلى انحراف في كينونة التأويل البياني في عملية البناء والهدم مما أدى إلى أن يتأسس التأويل البياني على المنطق العقلي فأتجه المشروع ابن حزم وابن رشد إلى بلورة مقاصد جديدة للشريعة، منتقدة في اللحظة نفسها الجهة الأخرى من مدار المركزيات التأويلية الباطنية التي عملت على التوفيق أو التداخل ما بين المنطق الأرسطي والهرمسية العرفانية مكونة معرفة عرفانية أحاطت بالتأويل البياني متأثرة بالأفلاطونية الجديدة وما انبثق عنها من التأويل الباطني الذي صرف المعاني إلى دلالات باطنية مقدمة معان مجازية55 في حركة لولبية حلزونية لانهائية متنقلة في تفاعلة جدلية تتخطى السببية الأرسطية؛ لذلك ميز المتصوفة بين مصطلحي الإشارة والعبارة إذ إن الإشارة مجردة إيحاء بالمعنى دون تعيين وتحديد في حركة أفقية منفتحة دائما أما العبارة فهي تحديد للمعنى مرتسمة في حدود وتخوم مغلقة ونهائية، الأمر الذي يتمخض عنه تعارض مع حقيقة الكلام الإلهي الذي شكل طبقات ومستويات تتحرك على وفق إشارات وإيحاءات متعددة لانهائية 56، وأن هذا التمايز ما بين الإشارة والعبارة شكل منظومة لغة إيحائية ثنائية تتناغم مع موتيفات المتصوفة، إذ إن المعنى الظاهر للخطاب الإلهي وبين دلالته الباطنية في عملية التواطئ التي شكلها المعنى الظاهر وما يدل عليه الخطاب بدلالته الوضعية في بعدها الإنساني في حين أن المستوى الباطني وهو المسار الأعمق لمستوى اللغة الإلهية المشار إليها بطريقة لا تُكشف الا لصاحب التجربة الصوفية، فأهل الظاهر من الفقهاء حسب الفكر العرفاني يقف أمام حدود الدلالات الوضعية للغة في بعدها الإنساني، أما الفكر العرفاني فإنه ينفذ إلى معان ودلالات عميقة باطنية57 تنكشف في معرفة حدسية تدخل تحت منظومة الحقيقة المتجلية.
ولقد تطور مصطلح التأويل لاسيما في التأويل الفلسفي على يد أبن رشد من خلال التوفيق بين الحكمة والشريعة، والتي كانت إرهاصاتها وبداياتها الأولى متبلورة عند الكندي والفارابي وابن سينا التي تجلت في فكرته الرئيسة في عدم التمييز أو الاختلاف مابين المعرفة العقلية والمعرفة الدينية ألا على مستوى الشكل58، التي تطورت وتبلورت في مسألة التأويل البرهاني متضحة أو بارزة للعيان في فلسفة ابن رشد الذي أشار إلى أن هناك اتصال بين علوم الشريعة والعلوم الفلسفية، إذ تكمن في ماهية أو جوهر يبرهن على تجليات الموجودات التي تشي من خلال دلالتها على الصانع 59، وتتساوق هذه الفكرة مع فكرة الشريعة التي حثتنا على النظر في المصنوعات محاورة عقولنا من خلال الدعوة للنظرى العقلي إلى الموجودات 60؛ لذلك أعد ابن رشد الفلسفة الأخت الرضيعة للشريعة متجلية في غاية وهدف واحد، وأن اختلف طريقهما في الوصول إلى الحقيقة مؤسسا فلسفته التي قامت على نقد علماء الكلام والجمهور أو العامة والمتصوفة منتهيا إلى وصف الفلاسفة بأنهم الراسخون في العلم الذين توصلوا بأنه لا يوجد تناقض بين الوجهة الدينية، والوجهة الفلسفية 61.
ومما تقدم نتلمس وجود تلاقيا في أنظمة التأويل المعرفي مابين الإتجاهات التأويلية عند العرب ومن خلال حركة أو اتجاه الألفاظ والدلالة والمعاني إذ تشتغل الألفاظ والدلالة في حركة جدلية متنقلة ما بين مسارات متعاكسة من خلال نقطة الانطلاق المختلفة في ولوج التأويل إذ نجد التأويل البياني معادلا نقيضا في نقطة انطلاقه مع التأويل العقلي، في حركة دورانية مابين اللفظ والدلالة في الأول واللفظ والمعقول في الثاني، ويتماهى مع هذه الانطلاقات توافق في اتجاه حركة المعنى، والباطن في نقطة انطلاقات مختلفة متبلورة في اتجاه المعنى والباطن في التأويل الباطني، وإتجاه الظاهر والباطن في التأويل الصوفي62.