كتاب (جماليات السرديات التراثية، دراسات تطبيقية في السرد العربي القديم) يتناول بعض الأشكال السردية القديمة، في النص النثري القديم، تحليلاً وتأويلاً ؛ للكشف عن ذلك المخبوء المعمّى، المستتر خلف حكائية هذه السرديات التراثية، بغية إعادة اكتشافها، والانفتاح عليه
You are here
قراءة كتاب جماليات السرديات التراثية - دراسات تطبيقية في السرد العربي القديم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
(التأويل) ما هو
التأويل، أو فن التأويل، كما يفضل بعضهم تسميته، هو: "فن بمعنى طريقة الاشتغال على النصوص، بتبيان بنيتها الداخلية والوصفية ووظيفتها المعيارية والمعرفية، والبحث عن حقائق مضمرة في النصوص، وربما المطموسة، لاعتبارات تاريخية وإيديولوجية، هو ما يجعل التأويل يلتمس البدايات الأولى، والمصادر الأصلية لكل تأسيس معرفي وبرهاني وجدلي".
تعود الفاعلية التأويلية بجذورها إلى المصطلح الإغريقي Hermeneutics، وكان هذا المصطلح يغطي الحقل الدلالي لمعاني: التعريف، والشرح، والترجمة، والتفسير، والتأويل. فقد كانت الهيرمينوطيقا تعني – في معناها التقليدي – نظرية التأويل أو علم التأويل ،ومعناه: أن يؤول المرء أو يترجم إلى لغته الخاصة أمراً ما يستوضحه ويجعله قابلاً للفهم، بمعنى أن هذا الفن يرتبط " بتيسير ما ليس في طاقة الإنسان وتحويله إلى صورة مفهومة".
من المعروف أن مصطلح الهيرمينوطيقا ارتبط بالنشأة الدينية، وبالتحديد: بقراءة النصوص المقدسة قديماً. وقد مارسها الإصلاحيون اللوثريون، الذين دعوا إلى حرية غير منقوصة في قراءة الإنجيل، وإلى فهم محتوياته دون إكراه. فكانت هذه الدعوة إلى فهم النص الديني المسيحي أساسًا لنشأة فن التأويل، حيث فتحت - هذه الدعوة - الباب أمام الهيرمينوطيقا ليتسع مفهومها، ولينتقل من مجال علم اللاهوت إلى دوائر أكثر اتساعًا تشمل كافة العلوم الإنسانية بما فيها الأدب.
أما التأويلية المعاصرة، فقد ارتبطت باسم الفيلسوف الألماني جادامر Heinz George Gadamer، وكانت نظرته التأويلية قائمة على الفهم والإفهام، منطلقة من مفاهيم ثلاثة رئيسة عنده: التفسير والفهم والحوار، " وهذا يعني أن التفسير يتطلب دائماً الفهموينطوي عليه بالضرورة. ولكن الفهم من ناحية أخرى لا يمكن أن يكون فهمًا حقًا إلا من خلال حوار" وقد عمل جادامر على صياغة جديدة للتأويل وللنظرات التأويلية التي وضعها أشهر فلاسفة التأويل، وبالأخص: شلايرماخر،Schleiermacher رجل اللاهوت الألماني (في أوائل القرن التاسع عشر)، وفيلهيلم دلثي، Wilhelm Delthy، وذلك في كتابه: (الحقيقة والمنهج). فقد اتخد جادامر منهما، أي من: "الحقيقة والمنهج" إطاراً لتحليل الظاهرة الفنية وعلاقتها بنوعين من الفهم: أحدهما جوهري، متعلقبمضمون الحقيقة، والآخر قصدي مرتبط بمقاصد المؤلف، وعلى ذلك "تقتضي وظيفة التأويل انتاج فهم للدلالة يراعي خصوصية النص وسياقات تأويله" .
وأما الشخصية الرئيسية الأخرى في (الهيرمينوطيقا)، أو فن التأويل الفلسفي، فهو: بول ريكورPaul Ricoeur (المولود عام1913)، وهو يرى أن "هدف الهيرمينوطيقا يشمل إنجاز المرء ذاته، فالذات، التي هي موضع تركيز أولي في كتابات ريكور، لا يمكنفهمها من خلال شكل من أشكال الفحص الديكارتي المباشر، بل عن طريق التفاف عبر الأعمال الثقافية، وخصوصاً الأعمال الأدبية". ويرى ريكور أيضًا، أن الممارسة التأويلية تجعل من الذات المؤوِّلة مصدرًا لمعرفة أساسها "يقينية الوعي الذي يتخذ من مقصد المؤلف مصدره، ومن النص معطاه، ومن القارىء دوره ".
فالقراءة التأويلية أولاً وآخرًا تسعى إلى فحص النص داخليًّا وربطه بسياقه العام خارجيًا. وعلى هذا فإننا لا نجاوب الصواب إذا قلنا: إن التأويل "إصغاء لما يقال، وما لم يُقل على السواء. التأويل لا يتركز فحسب على ما يصرح به النص. من الضروري أن نذهب إلى ما وراء النص بحثًا عنه". وعلى ذلك، فإن التأويل يرتبط بالموضوعات التي تمتلك معنىً عميقاً، أي: أن المعنى الطافي على السطح ليس هو مجال اشتغال هذا الفن.
حكاية الوليد بن يزيد ويزيد بن عبد الملك، قراءة تأويلية:
تجدر الإشارة هنا، وقبل البدء في تأويل الحكاية وعناصر تشكلها، أن نذكر: أن حكاية الوليد هذه تروي خبراً، وهو: "جنس سردي تراثي" كما نعرف، وهذا الخبر (الحكائي التاريخي) لا يخلو من أثر كلي، وهذا عينه شرط من شروط تحول الخبر إلى قصة، عند هذه النقطة نقترب من التشابه بين النص التاريخي والنص الأدبي: كلاهما يبحث عن حقيقة وعن الوضع الإنساني أو الوضع التاريخي "ومفهوم الحقيقة يرتبط بالقصدية المشترطة لكل أنماط فعل السرد" . يضاف إلى شرط الخبر أعلاه شرط آخر، هو: أن يكون لهذا الخبر بداية ووسط ونهاية، بمعنى: "أن ما يسمى بالحدث يجب أن ينتهي إلى لحظة كشف أو ختام يمنح الحادثة مغزاها، يُسمى لحظة التنوير" وعلى الرغم من مظهر حكايتنا البسيط، إلا أنها لا تخلو من بعض تلك الشروط، وسنوضح هذا لاحقًا.
أشرنا إلى أن هذه الحكاية تتضمن أحداثًا حقيقية، هذا صحيح: فهي – من جهة - تأريخ لحوادث وقعت، كانت ذات أثر كبير على مجريات الأمور أيام الدولة الأموية، ولكنها من جهة أخرى هي حكاية، من حيث داخَلَها عناصرُ تخييليةٌ. هذه الحكاية " تستحضر تاريخًا أكثر مما تقدم تاريخًا محكيًا " ، وسيلحظ القارىء - في هذا النص - إنتاج أحداث، لم ترد في التاريخ، بل لم يستطع – هذا التاريخ -الكشف عنها.
ومما يجدر ذكره هنا، أن حكاية الوليد وابن عمه يزيد قد وردت في كتاب (سلوان المطاع في عدوان الأتباع) لابن ظفر الصقلي، (توفي 565هـ) والعصر الذي عاش فيه ، و هو القرن السادس، هو القرن الذي شهد النزاعات السياسية، والانقسامات الحادة داخل الدولة العربية الإسلامية، وكذلك النزاعات بين شيعة وسنة، وبين عرب وترك. وقد أضعفت هذه الانقسامات المسلمين، وأدت إلى استيلاء الصليبيين على معاقلهم في: أنطاكية وبيت المقدس، وقيسارية وعكا وبيروت وصيدا وطرابلس في بلاد الشام، وهزيمة الفاطميين في مصر. ومما لا شك فيه، أن إيراد هذه الحكاية في هذا الكتاب له دلالته: فقد تمحورت أهداف ابن ظفر في كتابه المذكور حول "تجديد الوعي بإمكانية استمرار الدولة وتنظيمها، وبنائها على الإيمان. وكذلك تطويرها بالاستناد إلى الصورة القديمة المثالية لدولة الخلافة الإسلامية ..." . كما أن استدعاء التراث القديم في هذا الكتاب، وتحديداً حكاية الوليد هذه، لم يكن بهدف تثبيت أهلية السلطة وشرعيتها، لأن هذا الأمر لم يعد ملحًّا في ظل تهديدات فرضتها ظروف الحروب الصليبية كما أشرنا. لذا، فإننا نجد أن "البحث عن مقومات الذات والهوية المفتقدة هو الأساس" في ظل تلك الظروف الحرجة. المؤلف لم يشر إلى ذلك صراحة، ولكن هناك ما يدلل على هذا في سلواناته: ففي حكاياته كلها وحتى في قمة تأزمها، يتجسد الأمل عنده (بمنقذ) يتخذ عنده شكل الحكيم مرة، (كما هي الحال في حكايتنا)، وفي شكل وزير حكيم مرة أخرى، أو في شكل رجل دين مرة ثالثة. ولا غرو إذا ادعينا – في هذا المقام - "أن مثل هذه الحكايات تتخذ منحى أخلاقياً، فتكافىء الخيّرَ بما قدمه من خير، والشرير بشره"، ويظهر الشيخ - بعد ذلك - للمأمون في حكاية أخرى، فكأني براوي الحكاية أو مؤلفها - في سرده - قد: "عاقب بين فصل سردي متخيل، وفصل وثائقي" منتزع من التاريخ؛ ليشير على المأمون بما عليه أن يفعل في خلافه مع الأمين .