كتاب (جماليات السرديات التراثية، دراسات تطبيقية في السرد العربي القديم) يتناول بعض الأشكال السردية القديمة، في النص النثري القديم، تحليلاً وتأويلاً ؛ للكشف عن ذلك المخبوء المعمّى، المستتر خلف حكائية هذه السرديات التراثية، بغية إعادة اكتشافها، والانفتاح عليه
You are here
قراءة كتاب جماليات السرديات التراثية - دراسات تطبيقية في السرد العربي القديم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ثنائية الأزمة والانفراج
يتضح للناظر في ظهور شخصيتي الشيخين بشكل قوي في الحكاية، أنهما وُظفتا لخدمة ثنائية بنيت عليها الحكاية، وهي ثنائية الأزمة والانفراج، فهذه الثنائية تتفاعل بقوة، إما لتعميق أزمة الشخصية المحورية فيها، وتكثيفها، وإما لمساعدتها على تجاوز الأزمة والإسراع بمصيرها نحو الانفراج.
عنصر المصادفة يلعب دوراً مهماً في الحكايتين: الإطارية والمتولدة، وهو من عناصر التشويق الضرورية من أجل جذب القارىء لمتابعة القراءة. وهذا العنصر لم يسطع فجأة في فضاء الحكاية عبثًا، بل إن له قصدًا لا يخفى على القارىء الفطن، وهو: التحول. نعني بذلك: نقل مصير البطل إلى الضد تمامًا، فيصير سعيدًا بعد شقاء، أو شقيًا بعد سعادة، وهذا يفسر فكرة الأزمة والانفراج التي ذكرناها آنفًا: فهل تحققت هذه القصدية في الحكايتين؟
قلنا: لقد توازت الحكايتان وتماثلتا، ولكنهما لم تبقيا على هذا المستوى من التوازي فحسب، بل التقتا في حكاية ثالثة ساقها راوي الحكاية الأم تدليلاً على وجهة نظره، التي حاول أن يقنع بها عبد الملك في الحكاية الثانية، وفي الوقت نفسه حتى يقتنع الوليد بن يزيد بها- وربما غيرهما من الحكام كما أشرنا - لتماثل مقصديهما. الحكاية الثالثة، وهي أيضًا متولدة، لكن عن الحكاية الثانية، تعالج – كذلك - موضوع ضياع الحقوق، الذي سببه قلة الحرص وانعدام الحذر.
حكايتا الوليد بن يزيد، وعبد الملك بن مروان تمثلان ثنائية أخرى واضحة للعيان ،مرتبطة بالثنائية الأولى: الأزمة والانفراج، نعني بها: ثنائية السلطة والتمرد، ومع أن الحكايتين تلاقتا في بعض أحداثهما، إلا أن نهاية كل منهما تكاد تختلف عن الأخرى، إذ اتخذت كل واحدة منهما منحىً يختلف عن الآخرى.
مؤلف خبرنا التاريخي كان من الذكاء بحيث ترك حكاية الوليد دون نهاية، وترك للقارىء مهمة توقع هذه النهاية. صحيح أن التاريخ يعلمنا بمقتل الوليد عام 126هـ، إلا أن هناك معطيات توحي بهذه النهاية، وفي الوقت عينه، آثر المؤلف الوصول إلى (النهاية السعيدة) في حكاية عبد الملك. ولكن، لماذا؟
الإجابة على التساؤلات الواردة هنا تحتاج منا – كمؤولين – أن نكون على بينة مما قصده المؤلف/الراوي من حكايته، ولا يستطيع أن نفهم مراميها إلا إذا أُخذت بالاعتبار أجزاؤها الصغرى المكونة لها، وحُللت، ومن ثم رُبطت بالحكاية باعتبارها عملاً كليًّا، فارتباط الجزء بالكل ، والكل بالجزء حتمي من أجل فهمٍ أكثر جلاء، وهذا ما يُسمى "بالدائرة التأويلية"، أو "الدائرة الهيرمينوطيقية ".
وفي ضوء ما ذُكر، وكما توحي مجريات الحكاية الأولى، فإن فالوليد لم يكن يتمتع بذكاء عبد الملك ولا بحذقه في التعامل مع المتمرد، ولم يكن قراره في مواجهته كقرار عبد الملك: إذ لما سأل الشيخَ عن نفسه، تسمى وانتسب، لكنه لم يعرفه وأنكر نسبه، في نهاية الحكاية، وهذا السلوك يؤوّل بتجاهل الوليد لنصيحة الشيخ! بعدما سعى إليها سعياً يائسًا!، وبالإضافة إلى ما ذُكر، فمجريات الحكاية وأحداثها لا توحي بأن الوليد قد أخذ بما جاء في نصيحة الشيخ من احتكام إلى العقل والمشورة ويبدو – كذلك - أنه لم يحتط ولم يقم بما أوحى له به الشيخ من وزن الأمور ومقارنتها بمثيلاتها؛ حتى يتمكن من اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، فلم يستطع منع النتائج التي ترتبت على التهور وعدم الحذر، وكذلك الاستهتار وعدم الجدية. في حين كان عبد الملك أكثر وعيًا وأبصر بنهايات الأمور منه. فقد أدى خلاف الوليد مع ابن عمه يزيد إلى مقتله، عام 126هـ، كما أسلفنا، وأصبح يزيد خليفة من بعده، كما تقول الروايات التاريخية. هنا، لم يتحقق التحول إيجابًا بل سلبًا: من السعادة إلى الشقاء، بل من الحياة إلى الموت. وقد أراد المؤلف/الراوي أن يصل إلى هذه النتيجة، التي تطابقت مع واقع الحال، لتكون عبرة لمن يعتبر.
وأما الحكاية الثانية، المتولدة، حكاية عبد الملك فإنها تومىء إلى أن الخليفة قد أخذ بنصيحة الشيخ، وعاد أدراجه إلى دمشق ليخلصها من عمرو بن سعيد الذي استولى عليها في غيابه، كما يُفهم من كلام الشيخ له، وتغلب عليه وقتله، (كان ذلك عام 70 هـ). هنا وفي هذه الحكاية أيضًا تتطابق الحكاية في نهاياتها مع الروايات التاريخية، ويتحقق التحول إيجابًا، من الشقاء إلى السعادة، وفي ذلك إيحاء، بأن من يحكّم العقل، ويأخذ بالمشورة والنصيحة يسلم من الضياع، وتؤول الأمور لما يحب ويرضى. وهذا مقصد آخر من مقاصد المؤلف/الراوي.