كتاب (جماليات السرديات التراثية، دراسات تطبيقية في السرد العربي القديم) يتناول بعض الأشكال السردية القديمة، في النص النثري القديم، تحليلاً وتأويلاً ؛ للكشف عن ذلك المخبوء المعمّى، المستتر خلف حكائية هذه السرديات التراثية، بغية إعادة اكتشافها، والانفتاح عليه
You are here
قراءة كتاب جماليات السرديات التراثية - دراسات تطبيقية في السرد العربي القديم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
دلالة الحوار بين الوليد والشيخ
وفي عرضه لمفهوم المسامرة، في الحكاية الإطارية/حكاية الوليد بن يزيد، يجعل المؤلف/الراوي الشيخ يكشف عن ذكاء وقاد، وجواب لماح: ففي جوابه للوليد عن سؤاله إن كان يُحسن المسامرة يقول له: "إن المسامرة إخبار لمنصت، وإنصات لمخبر، ومفاوضة فيما يعجب ويليق".
فالإنصات يعني: الاستماع بكل الجوارح بهدف الاستيعاب، فالفائدة من الاستيعاب لا تتأتى إلا به، والأخذ بما يقال، وفي هذا شرط خفي أطلقه الشيخ ليحفز الوليد على فهم ما سيقول، وإلا فلن ينجو.
والإنصات لمخبر، يعني: الوثوق بما يأتي به مخبر الخبر، والتمعن بحقيقة الخبر وأخذ الحيطة والحذر بناء عليه. هذه العبارة تبدو لأول وهلة تكرارًا لسابقتها، لكنها في الحقيقة ليست كذلك؛ لأن المراد منها هو: أن يصغي الخليفة لمن يدلي له بالنصيحة، ومن ثم يعمل بها.
وأما عبارة: "مفاوضة فيما يعجب ويليق"، فأقرب تأويل لها، هو: أنه بعد توفر المستمع بكل جوارحه، للمخبر الموثوق بخبره، يجري النقاش، وتُتخذ المواقف: إما مؤيدة لما عُرض، وإما رافضة له، في جو من التفاهم وتغليب العقل.
وفي رده على سؤال الوليد إن كان يحسن المسامرة، يصنفها الشيخ، فيقول: أحدهما الإخبار بما يوافق خبرًا مسموعًا، والثاني الإخبار بما يوافق غرضًا من أغراض صاحب المجلس.
فالشيخ (كما أراد المؤلف) كان من الذكاء بحيث قدم للخليفة الوليد خيارًا من اثنين؛ لتحديد موضوع المسامرة بينهما، وهما ما أشرنا إليهما، ولكن ما الهدف من وراء هذا التقديم؟
أراد الراوي أن ينقل إلى القارىء شيئًا من الجو، الذي كان يكتنف مجالس الخلفاء وعلية القوم، وأن يبين أن جليسهم ليس حراً فيما يختاره من موضوعات، خاصة إذا كانت لا تروق لهم. إلا أن هذا الراوي جعل الشيخ يوحي للوليد بالموضوع الذي يود مسامرته به، فحمى بذلك نفسه من غضب السلطان، الذي يمكن أن يبطش به لو أنه عرض موضوعاً (لايعجب). فمن شروط المسامرة "مفاوضة فيما يعجب ويليق". وهو هنا يرى أن الموضوع الذي كان على وشك أن يعرضه أو (يفجره)، هو: موضوع التمرد على الخليفة، وهو موضوع – بلا شك – سيثير حنق الأخير، وربما يدفعه إلى البطش بمن يخوض فيه، خاصة إذا كان الكلام سيكون فيه إدانة للخليفة نفسه. وقد حفَّزَ الشيخ الخليفةَ الوليد على الكلام فيه دون غيره، ليدلي – هو – بدلوه في النصيحة بشأنه. ولكنه لم يرد أن ينصح أو يعظ وعظًا مباشرًا، فآثر أسلوب الحكاية؛ لما فيه من عناصر التشويق: من سرد وأحداث متخيلة وشخصيات مبتدعة. فبدأ بسرد حكاية عبد الملك وعمرو بن سعيد: وهذا معناه أن تكون الحكاية الثانية توضيحًا للقضية المقدمة في الحكاية الأولى.
هذا الحوار الذي دار بين الوليد بن يزيد والشيخ المسن يمثل نقطة اتفاق خفية بينه وبين الحكاية الخرافية/حكاية الحيوان، التي سردها الشيخ الثاني على مسامع عبد الملك؛ لتكون له هاديًا في اتخاذ قراره بشأن المسير إلى ابن الزبير أو إلى عمرو بن سعيد. الاتفاق الذي نزعمه هنا، يتجلى في حذر الشيخ من التعبير المباشر والصريح عن إجابةٍ، ربما تكون سبباً في البطش به – كما أسلفنا -، إذا لم توافق قبولاً لدى الخليفة. فسرده لهذه الحكاية، إنما أراد منه أن يعرض صورًا رمزيةً لشخصيات وحوادث أخرى يمكن التعرف عليها عن طريق المقابلة والمناظرة. فحرص الشيخ على الإتيان بشخصيات خيالية رمزية، تتشابه وشخصيات حقيقية في سياق السرد القصصي، غرضه: إثارة ذهن الخليفتين لمعرفة الشخصيات الحقيقية بالمقارنة بينها وبين الشخصيات الخيالية؛ ليتمكنا من اتخاذ القرار بناء على هذه المقارنة، فيكون المؤلف/الراوي بذلك قد شارك في اتخاذ القرار في الحكايتين.