كتاب (جماليات السرديات التراثية، دراسات تطبيقية في السرد العربي القديم) يتناول بعض الأشكال السردية القديمة، في النص النثري القديم، تحليلاً وتأويلاً ؛ للكشف عن ذلك المخبوء المعمّى، المستتر خلف حكائية هذه السرديات التراثية، بغية إعادة اكتشافها، والانفتاح عليه
You are here
قراءة كتاب جماليات السرديات التراثية - دراسات تطبيقية في السرد العربي القديم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الفصل الثاني
الحكاية العشقية في مصارع العشاق
(ابن السراج ت 500هـ /1106م)
حكاية جناية السبع على العاشقين
البناء والموتيف
المقدمة
العشقُ عاطفةٌ إنسانيةٌ، وجدتْ مع الإنسان منذ أن خلقه اللهُ على وجهِ الأرض، وهو "سرُّ أودعه الله في الأرواحِ عند صفائها وسهولةِ انقيادها، ثم يختلفُ باختلافِ البواعثِ والدواعي وميلِ النفوسِ بحسبِ مرادها.
والبحثُ الذي بين أيدينا سيتمحورُ حول حكاياتِ العشقِ التي نسجتها المخيلةُ العربيةُ. ومما لا شكَّ فيه أن هذه الحكاياتِ تحملُ في طياتها فكرَ ناسِها، وعقليةَ مجتمعاتهم وطابَعهم الثقافي والروحي والوجداني. وما يلفت النظر في هذه الحكاياتِ بناؤها الذي يكادُ أن يكونَ عامًّا ومشتركًا في معظمها، وفي ما حوته من موتيفات (أي: موضوعات جزئية أساسية) مشتركةٍ تكشفُ عن قيمِ المجتمعِ الذي أُلِّفت فيه، وعاداتِ الجماعاتِ الإنسانيةِ التي عاشتْ بينها شخوصُ تلك الحكاياتِ الرئيسيةِ. يضافُ إلى ذلك، أن هذا (الفنَّ) كان ينافسُ الشعرَ والغناءَ في تلك المجتمعات في القرونِ الإسلاميةِِ الأولى، "فقد كان الناسُ في مجالسهم – العامةِ والخاصةِ– يتذاكرون أخبارَ العشاق، ويتحدثون بقصصِهم" ويعجبون بما فيها من مواقفَ مثيرةٍ، وتصويرٍ معبرٍ وجوٍّ مؤثر ، علاوةً على ما فيها من الأحداثِ، التي تكادُ تبعدُ عن حدِّ المعقولِ إلى اللامعقولِ في بعضِ الأحيان.
لقد انطوتْ كتبُ الأقدمين على حشدٍ هائلٍ من أخبارِ العشقِ والعاشقين وقصصهم، وتنافس مؤلفو تلك الكتب في عرضِ تلك المادةِ، وتسابقوا في إضفاءِ عنصرِ التشويقِ عليها لتكونَ أكثرَ إثارةً للقارىء، وأقربَ إلى نفسه. وهذه المؤلفاتُ، وإن هي عرضت لبعضِ أخبارِ الحبِ الحسي المنهوم، إلا أنها أكثر احتفالاً بقصصِ الحبِّ العذري المحروم، كما هي الحالُ في "مصارع العشاق" ولقد صادفتْ هذه الحكاياتُ هوى في نفوسِ العرب، واستحوذتْ على خيالهم ومشاعرِهم ، حتى التصقتْ بذاكرتهم، ونجحتْ في خلقِ الدهشةِ والاستغراب فيهم. فليس من المستغربِ -إذن- أن تكونَ هذه الحكاياتُ " قد وُضعتْ لتلبيةِ رغبةٍ تعبرُ عن حالةٍ مزاجيةٍ تنطوي عليها النفسُ العربية، التي ترى في الحياةِ عاطفةً يمكنُ أن يحدثَ فيها وبسببها الأعاجيب ، وهي عاطفةُ الحب". وقد تكونُ هذه الحكاياتُ قد نُسجتْ حول شخصياتٍ حقيقيةٍ ، لكنها تمددتْ واتسعتْ حتى اشتملتْ على أحداثٍ لم تحصلْ على أرضِ الواقع، بل في مخيلةِ واضعها. أو أن تكون حكاياتٍ تدورُ الأحداثُ فيها حولَ شخصياتٍ ممن يُشكُّ في وجودِها ، أو ليس لها وجودٌ أصلاً، فشخوصُ مثلِ هذه الحكاياتِ إما: أعرابي، أو فتى من قبيلةٍ ما، أو ابنُ سيدِ قبيلةٍ، أو غيرُ ذلك من شخصياتٍ اخترعها ساردها، الذي لم يكن يتوقفُ عند حد اختلاقِ هذه الشخصيات، بل تراه يخترعُ أحداثاً هي أقربُ إلى الخوارق، التي تبعد شخصياته بالتالي عن أن تكونَ بشريةً في أعمالها. وهذا يجعلُنا نعتقدُ أن مثلَ هذه الأحداثِ كان مصدرُها الحكاياتِ الشعبية، التي وجدتْ، وتجدُ في المجتمعات البشرية تربةً خصبة لنمائها وانتشارها، كل ذلك بقصدِ التشويقِ، أو لفتِ النظرِ إلى موضوعٍ يود القاص تنبيهَ الناسِ إليه، وإقناعهم به، كالعفةِ والطهارةِ مثلاً، أو أن يكونَ هدفه تسليطَ الضوءِ على الأعرافِ والتقاليدِ في العلاقاتِ الاجتماعيةِ وسلوكياتِ الأفرادِ ، ممن انتابتهم أحوالُ العشقِ، كل طرفٍ منهم اتجاه الآخرِ.
وعلى كل حالٍ، فإنه يمكن القولُ: إن هذا الزخمَ الهائل من حكاياتِ العشقِ في التراثِ العربي قد اختط لنفسه مسارًا واضحًا، يغطي كافةَ جوانبِ السلوكِ الإنساني العربي في حالةِ العشقِ، ثقافيًا واجتماعيًا وأخلاقيًا. وستتناولُ هذه الورقةُ الحكايةَ العشقيةَ، من حيث بناؤها وتقنياتُ هذا البناءِ، ومن ثم إلقاءُ الضوءِ على (موتيفاتٍ) بعينها، تكررتْ في حكاياتِ العشق العربيةِ القديمة، ودراستها، مع توضيحِ ما توحي به من دلالاتٍ، وذلك من خلال حكاية (جناية السبعِ على العاشقين)، التي تقومُ نموذجًا لغيرها من حكاياتِ الموضوعِ نفسه، في كتاب"مصارع العشاق".