كتاب (جماليات السرديات التراثية، دراسات تطبيقية في السرد العربي القديم) يتناول بعض الأشكال السردية القديمة، في النص النثري القديم، تحليلاً وتأويلاً ؛ للكشف عن ذلك المخبوء المعمّى، المستتر خلف حكائية هذه السرديات التراثية، بغية إعادة اكتشافها، والانفتاح عليه
You are here
قراءة كتاب جماليات السرديات التراثية - دراسات تطبيقية في السرد العربي القديم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
دلالة التغيير
والآن: ما دلالة هذا التغيير الذي طرأ على مواقع العوامل في كل حكاية؟
وهل هناك صلة ما بين المتغير ومن يمثله من الشخصيات؟
مفتاح الإجابة يكمن في الحكاية الثالثة، حكاية الحيوان.
فمن يتمثل بحكاية الحيوان، خاصة في موقف كموقف الشيخ مع عبد الملك، لا يفعل ذلك تسرية عن النفس أو تسلية لإنسان، أو ترفيها عن مسؤول، فغالبًا ما يُتمثل بمثل هذه الحكايات دفعًا لبطش السلطان، ودرءًا للنفس من غضبه، لأنه يثير فيها نقاطًا مفصلية حساسة ذات خطر، فيدع الحيوان يتكلم بلسانه، وينطق بفكره.
وبالعودة إلى مفتاح الإجابة عن التساؤل الذي عرضناه عن دلالة تغير العوامل بتغير صفات من تمثله، فإننا سنجد أن هذا المفتاح يكمن في كلمة (ظالم)، وهو اسم علم للثعلب الأول الذي استولت الحية على جحره، ثم استولى هو على جحر مفوض.
ليس من قبيل المصادفة أن يسمي المؤلف/الراوي الثعلب الأول ظالمًا، مع أنه بدا في أول الحكاية مظلوماً، إلا أن إصراره على الاستيلاء على جحر مفوض، وهو ما ليس له، وسمه باسمه على الحقيقة: ظالم، فتغير موقعه من مظلوم إلى ظالم. وهذا ما أراد الشيخ أن ينبه المروي له الأول: الوليد بن يزيد إلى مغبة الظلم، ويحذره من عاقبته الوخيمة، وكذا للمروي له الثاني: عبد الملك، ولكلِّ من يتسلم زمام الأمر في أمة المسلمين.
لقد تعاطف القارئ – بلا شك – مع الوليد في بداية الحكاية، لوقوع الظلم عليه من ابن عمه، ولكن، عندما نتعرف على الخلفية التاريخية التي أتت به إلى الخلافة، وما اقترفه في حق كثيرين ممن حوله خلال فترة حكمه القصيرة، تنقلب المواقع، وتتغير المعايير، وكذا المواقف: وما لبث أن أصبح المظلوم ظالماً. حال (الوليد) هنا تشبه تمامًا حال الثعلب (ظالم): ففي أول الحكاية كان مظلومًا، وربما تعاطف معه القارئ لذلك. ولكن مع تقدم الأحداث، وتغير مسارها، بعد استيلائه على جحر مفوض، تغير من موقع المظلوم إلى موقع الظالم. المؤلف لم يأت بهذه الحكاية عبثًا، فهو قد قصد إليها قصدًا، والسبب يكمن بين سطورها، وقد ترك للقارئ الذكي مهمة استخلاص قصده منها: إنه يدين الوليد ولا يدافع عنه، كما أدان ظالماً، بقوله: هذا الباحث عن حتفه بظلفه! في حين لم يكن موقفه من عبد الملك هذا الموقف، فقد اتضح موقفه على لسان شيخ عبد الملك، الذي فتح له أفق النجاة على مصراعيه، عندما أوحى له بكل وضوح، الحل الملائم والأنسب لأزمته، وكان عبد الملك ذكياً، والتقط الإيحاء ونفذه، وتحققت نجاته. فكأنه يريد أن يقول: إن قضية عبد الملك عادلة، بالمقارنة مع قضية الوليد، التي هي القضية المحورية في الحكاية كلها. بل إن قضية كل إنسان يستهتر بأمر نفسه ورعيته، هكذا ستكون نهايته، وأما من يأخذ بزمام الأمور بتعقل وروية، وحكمة وتروٍّ، يصل شط الأمان.
ذكرنا سابقاً: أن الحكاية ، موضوع هذه الورقة، ربما بدت ساذجة أو بسيطة، وتكاد أحداثها لا تنم عن شيء خفي، ولكن، وبعد محاولات التأويل التي سقناها، يبدو هذا الحكم غير دقيق، بل ساذج وبسيط: فبعض أحداث هذه الحكاية ومعطياتها تثير كثيراً من التساؤلات، وكل تساؤل "ينطوي على جواب... فلا غرابة أن نزعم ... أن النص يتحرك في أفق سؤال ليس أقل أهمية من أية إجابات مقترحة أو مقدمة: المهم أن الحوار لب القص".
وبعد،
فهذه محاولة (تأويلية) لنص حكائي تاريخي، اضطلع بمهمتين: مهمة تأريخية، بإعطاء القارىء بعض التغذية التاريخية الراجعة عن فترة من التاريخ الإسلامي، والمهمة الأخرى: أنه يلقي الضوء على ما يمكن أن يسمى تداخلاً بين النص التاريخي والنص الحكائي، بما فيه نص الحكاية الشعبية. ولا تناقض في ذلك، بل على العكس، إنه يضفي على الأحداث التاريخية شيئًا من الجدة والطرافة، يحتاج إليها الخبر التاريخي الجامد. وقد خضع هذا النص إلى تأويل أحداثه ومهمات شخوصه، ورأينا إمكانية تأويل مثل هذه النصوص، مما يدفع على الاعتقاد،أن هذه النصوص عينها: قديمها وحديثها، يمكن أن تؤوَّل، ولكن ضمن سياقاتها التاريخية والثقافية.