كتاب (جماليات السرديات التراثية، دراسات تطبيقية في السرد العربي القديم) يتناول بعض الأشكال السردية القديمة، في النص النثري القديم، تحليلاً وتأويلاً ؛ للكشف عن ذلك المخبوء المعمّى، المستتر خلف حكائية هذه السرديات التراثية، بغية إعادة اكتشافها، والانفتاح عليه
You are here
قراءة كتاب جماليات السرديات التراثية - دراسات تطبيقية في السرد العربي القديم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
هناك عناصر أخرى في الحكايتين، تؤيد الاختلاف بين الشخصيتين المحوريتين في الحكايتين: الوليد بن يزيد، وعبد الملك بن مروان، مما أدى إلى اختلاف النهايتين: فمع أننا أشرنا إلى وجود تماثل بين حكايتيهما، من حيث حصول الوثبات والتمرد، إلا أن هناك اختلافًا جوهريًا خطيرًا بينهما، ربما كان عاملاً في توجيه النهاية التي اتجهت إليها كل من الحكايتين:
أولاً: أرسل الوليد بن يزيد الخادم؛ ليعثر له على شيخ رث الثياب يمشي الهوينى،... وجاء له به، معنى ذلك أنه أسلم زمام أمره في موضوع البحث عن مخرج من المأزق الخطير إلى خادم، وهذا التصرف عينه مقتل، لا يبشر بخير! بل إنه أوحى بإرهاصات أفول نجم الوليد ونهايته. وهذا التصرف – كذلك – يؤكد ما أوردته الروايات التاريخية من عدم جدية الوليد في إدارته لأمور الدولة، وانكبابه على الملذات، مما أدى إلى نهايته المفجعة على يد ابن عمه يزيد. فاستعانته بالخادم؛ ليوفر له طوق النجاة من الأزمة، المتمثل بالشيخ، تصرف يبعث على الاستغراب والاستنكار أيضًا، وكان أولى به، وهو الخليفة الحريص على مصلحة الأمة، أن يسعى إلى الخلاص بنفسه، وليس بوساطة الخادم! ليكون مقنعاً لذاته أولاً، ولمن حوله من الرعية ثانياً. فنهايته على الشكل الذي تمت به لم تكن مفاجئة، لأن معطيات كثيرة كانت تومىء إليها مسبقاً، وأقواها: الخادم، وهوشخص يمكن أن يكون خائنًا لمخدومه إذا أتيحت له الفرصة لذلك. فالحكايات، حتى الخرافية منها، كثيراً ما تسم الخدم بالخيانة: من هنا كان اعتماد الوليد على خادمه تصرفًا غير مسؤول.
وثانياً: إذا نحن أمعنا النظر في ما ورد في الحكاية المنبثقة عن حكاية الوليد، ونعني بها حكاية عبد الملك، نجد أن الخليفة كان أكثر جديةً وأعقل في توجيه الأمور، بل أكثر حرصًا على العمل بالنصيحة التي سعى إليها بنفسه، ولم يطلب من أحد أن يأتي له بها، وأخذ ما قاله له الشيخ على محمل الجد، بل إنه قربه إليه وأكرمه. وحتى عندما خرج من دمشق، ميمِّماً شطر مكة، قبل لقائه الشيخ، استعان بالحرس، وهم يمثلون القوة والمنعة، والإخلاص والتفاني، وهذا تصرف حكيم، وليس كتصرف الوليد باعتماده على الخادم.
وحتى الحكاية الدليل، حكاية ظالم ومفوض، هي الأخرى تحمل في ثناياها إرهاصات مقتل ظالم، الذي استولى على جحر مفوض، بالاحتيال والخيانة: فقد جاء ظالم بحِملٍ من الحطب، ووضعه في مدخل الجحر، ليمنع مفوض، صاحب الجحر الشرعي من الدخول إلى جحره.هذا الحدث بعينه، يحمل في ذاته إرهاصات هلاك ظالم، فالحطب قابل للاشتعال، ولا بد له أن يشتعل، ولكن كيف، وفيمن؟ . طالما أن ظالم قد أوقع ظلمه على غيره، فلا بد له من العقاب، وكان ذاك.
المصادفة – مرة أخرى – قامت بدورها هنا في هلاك ظالم مرتين، الأولى: عندما جاء مفوض بقبس من نار، ووضعه إلى جانب الحطب في مدخل جحره، دون أن يعلم أن ظالمًا بداخله، فاشتعل الحطب، ومات ظالم، واكتشف مفوض إذ ذاك خيانته، وقال هذا المثل: هذا الباحث عن حتفه بظلفه.
المصادفة قامت بدورها في هذه الحكاية مرتين: الأولى في احتراق ظالم، كما أشرنا، والثانية في اسمي الثعلبين: فالأول اسمه ظالم، وهو وصف لفعلته المنكرة، وهي الاستيلاء على بيت ليس بيته، والاسم الثاني: مفوِّض، ويوحي بأنه قد فوض أمره لله، حتى لو لم يكن يعلم بنية ظالم إلا متأخرًا، ولكن إرادة الله أنصفته، وأعادت إليه حقه منه. فكأني بالمؤلف يوحي للقارىء بأن يفوض أمره لله، بعد أن يكون قد أخذ للأمر عدته، وهنا يمكن أن يكون القارىء المعني بهذه الإشارة هو صاحب الأمر، الذي عليه أن يعقل ويتوكل.