كتاب (جماليات السرديات التراثية، دراسات تطبيقية في السرد العربي القديم) يتناول بعض الأشكال السردية القديمة، في النص النثري القديم، تحليلاً وتأويلاً ؛ للكشف عن ذلك المخبوء المعمّى، المستتر خلف حكائية هذه السرديات التراثية، بغية إعادة اكتشافها، والانفتاح عليه
You are here
قراءة كتاب جماليات السرديات التراثية - دراسات تطبيقية في السرد العربي القديم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
قصة داخل قصة
أول ما سنشير إليه، في معالجتنا للحكاية التاريخية موضوع الدراسة، أن القصة داخل القصة قد برز استخدامها هنا، بمعنى: أن هناك حكاية تولدت عن الحكاية الإطارية،أو الحكاية الأم وحكاية أخرى تولدت عن الحكاية المتولدة الأولى، والربط بين مثل هذه الحكايات المتولدة يجب أن لا يكون مفتعلاً، وأنا أعتقد أن الربط في حكايتنا لم يكن مفتعلاً أيضًا، فقد جاءت الحكاية المتولدة الأولى – كما يبدو من مجرياتها - جواباً عن السؤال أو القضية الواردة في الحكاية الإطارية، وهي حكاية الوليد وابن عمه يزيد. فحكاية عبد الملك تحتم انبثاقهـا عن الحكاية الأولى ، ونراها تستمر في نطاقها، مع أنها جرت في زمن آخر (قبلها)، لشخصيات أخرى، ولكنها تتسم بالأجواء نفسها التي وسمت الحكاية الأولى، بل إنها تتشابه في المعطيات ذاتها من تمرد وثورة، وبحث عن مخرج من المأزق الذي وقعت فيه الشخصيتان المحوريتان في الحكايتين: الإطارية، والمتولدة الأولى. وكذا حكاية الحيوان التي تولدت عن حكاية عبد الملك، فقد جاءت موضحة لها، ومدلِّلَة على ما طُرح فيها من مسائل. صحيح أن كل حكاية من هذه الحكايات يمكن أن تكون مستقلة، إلا أنها يمكن أن تندمج مع الأخرى؛ فكل منها يؤدي في النهاية إلى غرض حدده المؤلف سابقًا؛ إذ لا يمكننا "أن نتحدث عن تأويل محدد ما لم نفترض سلفاً قصدًا للمؤلف يوجه ذلك التأويل"، وهذا ما ذكرناه سابقًا عن هدف مؤلف الكتاب الذي وردت فيه الحكاية.
الحكاية الأولى – كما أوردنا أعلاه – تدور حول شخصية الوليد بن يزيد، الذي يتناهى إليه أن ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك يثير الناس عليه، وقد شرّد القلوب عنه، و أخذ يشعر أن الدنيا قد أطبقت عليه بفكيها، وغدت موليةً عنه، منذرة بقرب الأفول، فما كان من المؤلف أو الراوي، في هذه اللحظة إلا أن أقحم عنصر التخييل بابتداع شخصيات متخيلة بدءاً بشخصية الخادم، وانتهاءً بشخصية الشيخ الذي أحضره هذا الخادم للوليد، وكأني بالخليفة هنا كان يتوسل العون والنجاة من أي جهة كانت، طالما تنطبق عليه الصفات التي تجسد طوق النجاة له، فكان هذا الشيخ، الذي كان يلبس رث الثياب، ويمشي الهوينى مطرق الرأس، ضعيفاً. لقد ملك اليأس على الوليد نفسه، فلاذ بما يخرجه منه: التجربة والحكمة وصواب الرأي:
فالشيخ كان طاعناً بالسن، وهو على هذه الحال يمثل التجربة الثرة والحكمة الصائبة والمعرفة الواسعة، وكان رث الثياب، تبدو عليه علامات الزهد، والعزوف عن الدنيا، ميمِّماً شطر الآخرة: فمظهره ينبىء بأنه لم يكن يرجو من الدنيا أكثر من الذهاب منها بسلام، لذلك، اعتقد (الوليد) أن نصيحة هذا الشيخ ستكون خالصة، لا يرجو من ورائها كسبًا ولا مغنما، وربما كان هذا المظهر هو الذي بث في نفسه شيئاً من الراحة والطمأنينة، يظهران في تبسطه بالكلام مع الشيخ فيما بعد. تسلسلُ الأحداث – عند هذه النقطة– يجعلنا ندرك أن "السرد قد يكشف الحكمة كما قد يخفيها، بل لعله يخفيها أكثر مما يكشفها"، كما سنرى فيما بعد.
نعود إلى الشيخ (الحكيم): إنه يمشي الهوينى، لأنه ضعيف لا يقوى على شي – أو هكذا يبدو -، فهو لهذا مأمونُ الجانب، لا تُخشى منه وثبة ولا تمرد. وهذا ما أراده الوليد: فقد عانى من هذا التمرد شيئاً كثيراً. وربما أراد مؤلف الحكاية أن يُذكّر القارىء بأن الإنسان ضعيف حتى لو بلغ من السلطة والقوة ما لا يتخيله عقل ولا يتوقعه إنسان، فما بالك في من يطلب العون من ضعيف؟ فهو إذن أكثر ضعفاً منه! هنا يبدو الوليد ضعيفًا، وأنه لا يستطيع أن يرى السبيل الواضحة للخلاص من المأزق؛ فتراءت له أمنية الخلاص حلمًا على هيئة رجل رث الثياب ضعيف، ودَّ لو يكون هذا الحلم حقيقة أو هكذا أراد مؤلف الحكاية لهذا الموقف أن يبدو. الضعف صفة إنسانية يراها الإنسان في غيره ولا يحب أن يراها في نفسه، ففي حقيقة الأمر هنا، أن الشيخ الضعيف كان مرآة الخليفة رأى فيها حقيقته ، ولكنه لم يجرؤ على الاعتراف بها أو مواجهتها، فجسَّدها في غيره، هرباً من وقعها عليه، فجعله ذلك ينشد معجزة تنتشله مما به! وهذا ما يؤكد أن وظيفة الحكاية التاريخية ليست مجرد توصيل الأخبار أو المعلومات فحسب، بل إنها – أيضاً – " الإثارة إلى حد المشاركة الفعالة بين رسالة ذات معانٍ متشابكة ، ومستمع أو قارىء". هذا الطلب الذي تمنى الوليد أن يراه في هيئة شيخ، عنصر تخييلي أُقحم في الحكاية، فاختلط فيه الخيال مع الحقيقة، بل إن هذه الشخصية بلغت درجة قصوى من التخييل: "فهي شخصية مستمدة من عالم ما ورائي ممعن في الخيال... لذلك لا إمكان للتعامل معها إلا من وجهة نظر قصصية؛ باعتبار أنها لا تحيل على واقع حقيقي بقدر ما تحيل على عجيب الأدب وغريب الإبداع"، وهذه الشخصية، بالمهمة التي أنيطت بها، هي التي أخرجت الحكاية من آلية التاريخ الجامدة إلى حيوية الخلق والتخييل، وهذا أيضاً ملمح من ملامح الحكاية الشعبية: "فمن المألوف في هذه الحكايات أن يظهر (للبطل) في ساعة يأس رجل شيخ، يقدم له العون، أو حيوان خيِّر ينقذه من مأزقه"، وكان أن ظهر هذا الشيخ، وحسم الحيرة التي كانت مسيطرة على الوليد،الذي لم يستطع أن يحقق المعرفة اللازمة ، التي يستطيع بها أن يخرج من أزمته مع ابن عمه (الذي يمثل بالنسبة إليه القوى الشريرة) فتوسم الإنقاذ في الخبرة والحكمة اللذين تجسدا له في شكل رجل عجوز، (يمثل القوى الخيرة)، وهذا عينه هو عنصر الحكاية الشعبية هنا: فمؤلف الحكاية "أفرغ في هذا العنصر تجارب اللاشعور الذي يغلب على الوجدان الإنساني، تمامًا كما في الأحلام."
الحكاية الثانية، هي الحكاية المثل التي ساقها الشيخ؛ لتكون تأكيداً على فكرة أوردها كجواب على استفسار صدر عن الوليد، وتقول الحكاية المتولدة عن الحكاية الأم: إن عبد الملك طلب النصيحة من شيخ ضعيف فقير الحال بسيط، التقاه في طريقه، عند خروجه من دمشق إلى مكة، لمحاربة ابن الزبير، وكان أن أسدى الشيخ له النصيحة، وهي أن عليه أن يعود إلى دمشق لتخليصها ممن استولى عليها، وهو عمرو بن سعيد, وإلا ظهر بمظهر الظالم إذا هو أصر على محاربة ابن الزبير.
هناك توازٍ ملحوظ بين الحكايتين، حكاية الوليد بن يزيد، وحكاية عبد الملك بن مروان، على الرغم من أن الثانية متولدة عن الأولى: فكلا الخليفتين يتهددهما خطر التمرد والوثبات، إلا أن الحكاية الثانية كانت أكثر تفصيلاً من الأولى، للسبب الذي سقناه سابقًا، وهو أنها جاءت جوابًا على تساؤل مطروح، أو تأكيدًا على قصد حدده المؤلف سابقًا. وما ينبغي أن يكون عليه علم التأويل – هنا – "إنما هو محاولة إعادة بناء القصد الأصلي للمؤلف بأي بيّنة تصل إلينا" وعلى ذلك فإن التفصيلات الواردة في الحكاية الثانية كانت مهمة للحكاية الأولى، بل إنها تضفي عليها مزيدًا من الواقعية، وتشكل دلائل وبيّنات على مواقف ذات خطر، ربما كانت أشباهها ماثلة للعيان، في عهد المؤلف، تحتاج إلى من يحل لغزها، ويفرّج تعقيداتها.
مرة أخرى يظهر شيخ ضعيف مسن، سيىء الحال فقير: صفات هي عينها صفات شيخ الوليد، شخصية ترين عليها، هنا وهناك، علامات الغموض، فمن مظاهر القص المتعلقة بالشخصيات في الحكاية العربية القديمة، خاصة تلك التي تسطع فجأة، " أن تحمل علامة، " توظف توظيفًا خفيًّا طوال الحكاية، إذ تظل محاطة بهالة من الغموض تتبدل تدريجيًا مع تطور الأحداث ".
يركز المؤلف/أو الراوي على هيئة الشيخين في الحكايتين، ويحرص على أن يكون كل منهما سيئ الحال رث الثياب. هذه إيماءة من الراوي/المؤلف لا تخلو من لمحة وعظية تعليمية! فهذا المظهر يناقض تماماً مظهري الخليفتين دون شك، وكأن المؤلف/الراوي أراد من هذا التركيز على مظهر الشيخين أن يقول: إن من تُناط به مهمة كبرى، كمهمة قيادة الأمة، عليه أن يتجرد من كل ما هو دنيوي زائل، لتكون كلمته في الحكم صائبة لا تشوبها شائبة. وبما أن القراءة التأويلية تسعى إلى تقديم وجه محتمل من وجوه عديدة محتملة"، فإن هناك تأويلاً آخر يدخل في دائرة الاحتمال هنا، وهو هذا الموضوع: المظهر. فعلاوة على التأويل أعلاه، فإننا نعتقد أن التأويل الآخر له هو: أن المؤلف/الراوي أراد من الشيخين أن يكونا قدوتين في المظهر والمخبر معًا، في التواضع والحكمة، في الزهد والتقوى، في الحكمة والحنكة للوليد وعبد الملك، ولغيرهما من الحكام بعدهما، خاصة إذا تذكرنا أن الحكاية سُردت في القرن السادس الهجري، وأن الوضع يحتاج من الحكام أن يكونوا كما الشيخ في تلك الصفات.


