أنت هنا

قراءة كتاب صدى الزور البعيد

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
صدى الزور البعيد

صدى الزور البعيد

في رواية "صدى الزور البعيد"؛ هل يكون العالم الذي نعيش فيه جزءاً من عالم أكبر؟

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 2
عبد الله الرحبي أدرك ذلك، حين أوضح قبل تسعة أيام أن ترميم السدة ضرورة لاجتناب المصير الأسود الذي حل بهم قبل ثماني سنوات، لأن مستوى النهرأخذ ينداح عن ضفته ويقترب قليلاً فقليلاً من أراضي البستان القائم على سفح العلوة، من طرفها الشرقي· غير أنه أكثر بطئاً من أن يحمل الدمار والطوفان· قرر مع تراك الناصر أبي فاطمة ورداد الزغير ابن عمته أن يتولوا أمر الترميم، وأبنائهم الثلاثة عشر، في صباح العاشر من آذار·
 
استغرق تدعيم نواة السدة بوحل الغضار والتراب الكتيم الأحمر (الحرى) أربعة أيام حتى ارتفعت في اليوم الرابع إلى نصف قامة محمد عبد الله الرحبي الذي ألح على تدعيمها قبل إقامة جسم السدة وبدنتها· وبيّن لهم أن النواة أساس السدة فإذا هزلت تبددت السدة ولم تعد ذات نفع، مثل جذور النخيل فكلما علت رؤوسها تغلغلت جذورها عميقاً في باطن الأرض· أما الأيام الخمسة الباقية فكانت لإشادة جسم السدة المكون من غطاء من الحصى والحجر وشوك العاقول ومن ثم ردم كل ذلك بالتراب والرمل، وظلت المهمة الأخيرة بعد غرس شدف وجذوع شجر الحور والكينا عند مصد السدة، تدعيم سطحها بالحجارة البيضاء الكبيرة·
 
مع محمد الرحبي كان أيضاً خليل، الابن الأكبر وأخوه حامد ولدا ردادالزغير، فاقتلعوا شدف الحور وجذوعها من دغلة الحويجة القابعةوسط النهر· وتمت النقلات الخمس على طرادة محمد الرحبي المزودة بحبلين طويلين من الكتان وفؤوس التحطيب الثلاث· وفي أول نقلة تحطيب على ظهر الطرادة قام بها محمد وحيداً، دون خليل وأخيه اللذين انشغلا في صيد سمك الشبوط لعشاء ذلك اليوم·
 
وكانت نشوة غريبة على قلبه، مضى وحيداً، وهمـه الوصول إلى الضفة، ضفة الحويجةالمحاطة بمياه النهر· وكانت فاطمة في فستانها النيلي، ترقبه من بعيد، على سفح العلوة، حين هبط إلى الحويجة وتوغل بين أشجارها الكثيفة، حيث نمت الأشـجار وتشابكت كلما تقدم داخل الدغلة· وعلى بعد أقدام يسيرة منه في مركز الجزرة، كانت شجرة مترهلة عجوز من أشجار الكينا الكبيرة تستند على أرضها بوهن، ربما كان سيهتدي إليها فيما إذا طلب شدف التدفئة لأيام الشتاء الباردة· وكان يذكرأن الشمس أمامه على سطح النهر وهوفي طريقه إلى الحويجة، وداعبته بين آونة وأخرى نسمات رقيقةفنسي أن يلتفت إلى الوراء، إلى طيف فاطمة حين زم كلابيته وقفز من الطرادة إلى ضفة الحويجة، واقفة هناك في ثوبها النيلي، تحفر آمالها في جسده المبتعد· فاطمة بعد أيام تذكرت أيضاً أن محمداً حين أصبح في وسط النهر، تمايل مرتين وكاد أن يسقط من الطرادة، لكنه تمالك نفسه· وكانت الشجرة واقفة هي الأخرى، ورأسها يتمايل من السنين التي قضتها في مكانها، فمنذ زمن طويل كانت نبتة صغيرة زرعتها عجوز أمضت نصف عمرها الأخير في قلب الحويجة توزع التعاويذ وصور الأرواح والكامات على القوافل والأجيال· وظنّ محمد أن فأسه تهمّ بفتح ثقب كبير في بطن الكينة الميتة· والفأس التي ستهوي بصمت دفين على لحاء الشجرة الجاف عجلت في هجرة النمل والدود الطيني بترك الشجرة وقد آثر الابتعاد عن المصـير المحتوم· وكانت الشجرة تقشعر مع كل ضربة فأس، فهبط سكانها الطينيون ليتحلقوا حول محمد الرحبي، لكنه أبعدهم بضربات أقدامه الهائجة، وتخيل أن الشمس تتقمر في سماء الدغلة، وتنزل على إحدى الشجرات· وسمع صوتا فلم يقدر فيما إذا كان الصوت صادراً عن القمر الهابط أم عن أعماقه الغريبة، شيء ما راح يئز في مسامعه، حول رأسه المعفر بأوراق الشجرة الخريفية، ظل يتقدم ويعلو كدخان حطب، اقترب منه الصوت كأفعى، راح يدوركدوامة مصراع، سدّ أذنيه براحتيه الخشنتين، لكن الصوت صار يدوّم كالطاحون، ورأى الشجرة المتكئة على مفصل جذعهاتتمايل بتثاقل، فبقي في مكانه، وعيناه المشدوهتان تسمرتا في محجريهما، ولم يع نفسه إلا حين أيقظه حامد الذي تبعه سباحة، من فوق جسم الشجرة الأبيض قال: إيش بك نايم، نأخذ الشدف من الضفة أخير·
 
بقي في صباح اليوم التاسع، دك سطح السـدة بالحجـارة البيضاء الكبيرة، لذا قام عبد الله في بث الأمل في نفسه رغم التعب في الأيام الثمانية الماضية· استيقظ على صياح ديكة تراك الناصر واستطاع أن يستحث رئتيه على استنشاق النسمات البكر، شرب القهوة المرة وأنعش نفسه بمنظر السماء الغض·
 
غير أن أعماقه كان فيها خوف آخر· فسدة العلوة بانت واتضحت متوازية مع شريط النهر· لم يبق منها حتى تكتمل سوى دبكة الرقص التي ستلفها فرحاً وبهجة· كل شيء انتهى، وإذا كان الأمر كذلك فإن هذه السدة تحميهم من كل هيجان محتمل للنهر، قوية ونواتها متينة، لا يستطيع النهر أن يبلغ ذراها بسهولة، وعايد الخضر نفسه إذا وقف خلفها، على طول قامته، فلن يتمكن أحد من رؤيته· وقد أدرك محمد الرحبي الخواطر الغامضة التي دارت في رأس والده، عندما رأى من بعيد عيني كدرية تلمعان في وجهها طرباً· كان الصبح قد دنا وتراجع الليل عن أركان العالم، ومن خلف الحائط ناداه تراك الناصر، قال له: (تحدّر يا أبو محمد، لزوم ما نبطي اليوم وكاد نخلص إنشاء الله )· وسمع ابنته فاطمة تهمس في أذن والدها: العصيدة علينا يابا ظهر اليوم·

الصفحات