في رواية "صدى الزور البعيد"؛ هل يكون العالم الذي نعيش فيه جزءاً من عالم أكبر؟
أنت هنا
قراءة كتاب صدى الزور البعيد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 5
كانت كدرية في زاوية الحوش عندما أكدت لها ملامح دلة وجوب البدء بالعمل، فاندفعت إلى أبيها، تقول: باكر هو الزين، أي نعم، اليوم اجمعوا زلمكم واتفقوا يا أبو خليل· ثم مضت كدرية، خرجت من دار السرايا، بعينيها الكحيلتين، تسمع الأصوات المنهكة في البناء، فتوجهت إلى بستان عبد الله، وقفت هناك برهة، وتجولت في خواطر شجرة زايد الصامتة، وكانت وحيدة في وسط البستان، رأت فاطمة تنزل من العلوة وفي يدها طاسة اللبن الطازج، وهمست الظنون في نفسها أن خليل يتلصص وراءها، سمعت حركته المتخفية خلف أول شجرة عبرتها لتدخل بستان عبد الله، التفتت إلى الوراء، فانخطف خليل الساير الى الخلف، تراجع إلى شجرة نخيل قريبة، ولم تنتظر، تجاوزت البستان، واقتربت من الضفة ثم جاورتها متجهة إلى بناء سدة الرحبي غير المكتملة بعد· رأت محمد يعيد الطاسة إلى فاطمة المنتشية فرحاً· فدارت حول السدة، ومن طرفها الثاني بالقرب من محمد، رفعت رأسها ونظرت إليه بإمعان، وذكرت عيناها البراقتان محمد بخيال ذكرى ما زال ملحاً في جانب من حياته· جلس فوق السدة وباعد ساقيه، وراح يتذكركدرية حين كانت أيام الطفولة تلعب معهم لعبة الضائع والضميمة، وكانوا يلقبونها بالحريبة، لأنها ولدت في بطن المـاء بالقرب من مسكن الجنية حربة النجم· وكانت تهوى لعبة الضائع، وللبحث عنها ينقسمون إلى جماعتين، الأولى تفتش عنها في طول الضفة، وفي منحدرات الوديان القريبة من النهر، والثانية تقتحم المقبرة والتلال المحيطة بها، بعضهم كان يتوغل متجاوزاً سور البلدة، إلى الأجفار حتى وكر حية السلطان الكبير· كانت تنسل كظل السحر إلى المحج، كي تعيد الكرة ويعيدون التفتيش· ولم ينس محمد أبداً ذلك اليوم عندما جددوا لعبة الضائع وانتظروا إلى أن غابت عن أنظارهم·قام أربعة أولاد بالبحث عنـها، ذهب اثنان ناحية النهر، فيما ذهب محمد وحامد تجاه المقبرة· كانت حينها السماء معتمة· وتلعب الأصوات الناجمة عن الحركة أو التململ في الكشف عن المخبأ· كانا يصيخان السمع، فهمس محمد وأشار بيده إلى الخيال خلف قبر حمد الطعان، بينما كانا يهبطان إلى المقبرة الغارقة في شبح المساء، فوافقه حامد بصوت خفيض، وقال: نتقرب وندكّها· ويذكر محمد أيضاً أن كتم الأنفاس أخفى فزع قلبه، لكن عثرته بشاهدة أحد القبور المائلة، قلبت السكون والحرص إلى ضجة، مما جعل الكلب المتلصلص خلف قبر ابن طعّان يفر نابحاً·· وحين عادا إلى المحج، وجدا زميليهما عائدين دون نتيجة· وانتظروا حتى تظهر كدرية بنفسها· فوقفوا على المنافذ الأربعة للمحج· سدوا الطرقات، رصدهم الخوف وهم يتحسبون، سمعوا أذان العشاء والرجال الذين يهمهمون مارين بهم متضرعين ( يا الله )· ودارت في نفس محمد فكرة الصعود أعلى المئذنة، مئذنة العلوة المطلة على البلدة، ليرى ظل كدرية، أو يصيحها· فقد بدا الملل يتسرب إليهم، فكّر بعضهم بترك اللعبة والعودة إلى البيت، ولكن محمد لم ينه اللعبة، فما زالت كدرية متوارية· وانتظروا·· فخرج المصلون من المسجد، وراحت الدروب تفرغ من المارة· وأخذوا يفقدون الصبر، فتراجعوا إلى المحج وجلسوا إلى بعضهم، مرت لحظات نسوا أنهم يلعبون، فتداعت أفكارهم إلى قصص سيف بن ذي يزن، وراح حامد يقارن بينه وبين عنترة، فبيّن أن عنتر بن شداد الذي كان يحب ابنة عمه عبلة هو أقوى رجل على هذه الأرض، لا يمكن لأي بطل أن يقوى عليه، كان يسكن قلعة الرحبة، ثم استدعاه الملك النعمان إلى حيرة العراق، وهناك عاش مع عبلة يدافع عن الملك ولم يمت إلا حزناً على موت ملكه النعمان، وما زال قبره جانب قبر الملك في العراق· وكادوا ينسون كدرية لولا خالتها خود الحمد سألتهم عنها، فتذكروا أنهم ما زالوافي لعبة الضائع، لم تنته اللعبة بعد· وترامت إلى مسامعهم أصوات كلاب نابحة بعيدة، قالوا لخود: إنها يمكن وراء السور، بحثوا عنها في المقبرة ولم يجدوها، وهي ليست على أطراف النهر، ولا في البساتين المحاذية، رأوها تنزل من العلوة تجاه المقبرة، وإذا كانت قد دارت في طريقها عائدة إلى النهر، فإنها لن تستطيع إخفاء نفسها بهذه السرعة، كانا سيكشفانها حين بحثا عنها جانب الضفة، فهما الأسرع بكل تأكيد· وقرر محمد أنها خلف السور، ربما في جفر حية السلطان· وهبط الليل وعلا نباح الكلاب، ثم اقترب صداه، حتى أوجس الفتية أن قدر الفتاة سيتقرر بين لحظة وأخرى· يأتي مرمى الصوت من الفتحة المشرفة على الوادي، منها كانت الضباع الجائعة تتسلل لتداهم البلدة، وكانت عينا خود الحمد تدوران ببله في محجريهما، طار صوابها إذ سمعت نباح الكلاب يقترب، يتجاوز السور، ربما الآن في وسط المقبرة، وهجست مسامعها بعواء جريح، تتخيل أن الضبع يطحن بأسنانه الكلب الذي دافع عن كدرية، لا مناص سيضبعها كي يأخذها رهينة· وتدحرجت الكلمات بطيئة، ثم انفجرت، ملأت العلوة كلها، وصرخت خود باستغاثة يائس للفرصة الأخيرة: يا أهل المروة·· وتابعت في جوف الليل المترامي: كدرية ية ية ية ية ية ية· ويذكر محمد الرحبي أن خاله عايد الخضر، قفز عليهم من سطح بيت مجاور، واستفهم منهم بصعوبة أن كدرية غائبة في لعبة الضائع، ويخشون عليها من الضبع المتحلقة حوله الكلاب· فصاح بصوت كالطوب: أنا أخو هدلة· ولم يمض وقت حتى رجع عايد الخضر على فرسه الهيلوان وأمامه كدرية تختلج من الرعب· لقد كانت مختبئة في المقبرة وقد قالت فيما بعد أشياء لا تصدق، قالت أيضاً أن خوفها من خسارة اللعبة، وصورة الضبع في خيال الليل أفقدها الجسارة كي تعود، فجمدت في مكانها تنتظر عايد الخضر·
وكانت كدرية تحن في طفولتها إلى بيت عبد الله، وإلى هدلة وأخيها عايد، الى محمد الذي شاطرته الزعامة على أولاد الحارة، فدوماً يطفح قلبها بصور تتمناها لابن عبد الله، يقف كخاله عايد الخضـر فارس الهيلوان، وينتزعها من يد أبيها، يعود بها إلى الطفولة·
أخذها أبوها صالح الساير من خالتها خود الحمد، التي لم تبارح هدلة، لا في صغيرة ولا في كبيرة· ولأن خود أكدت لعايد الخضر أنها ابنته الحقيقية، وليست ابنة مواس الذي وصل معها إلى البلدة في نهاية القرن الماضي في قافلة شركة الهند السريعة القادمة من بغداد، فإنه التزم الصمت ولم يقم بأي محاولة لاسترجاع الفتاة·