في رواية "صدى الزور البعيد"؛ هل يكون العالم الذي نعيش فيه جزءاً من عالم أكبر؟
أنت هنا
قراءة كتاب صدى الزور البعيد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 6
وحاولت كدرية مرات التقرب من محمد أثناء وجودها في سرايا الساير، وفي السنة الماضية حملت إلى خالتها خود، إلى بيت هدلة، القطفة الأولى من ثمر الرمان، وكانت تريد أن تفصح عما انطوى عليه قلبها، وقالت في نفسها أن محمد ينتظر هذه الكلمة منذ زمن، حين أراد تقبيلها في النهر بينما كانا يستحمان في الطرف الآخر من الحويجة، قالت تختبره: ابعد قلبي مه لك·
ولما راحت تذكره بهذا ادعى أنه لا يذكر شيئاً·· لكن خود أخبرتها أن محمد ينـوي خطبة فاطمة في الربيع· ولم تتراجع عن مقصدها، وقفت أمامه، قبل أن تخرج، قالت: يا محمد قلبي نصفين، نصف لك وهذا راح البارحة، وقت كنا صغار، ونصفه هسّع طلع، ما أدري·· خوفي عليك منه·
وعادت كدرية· تركت وراءها ذكرى لا تمحى من محمد الرحبي، تركت زخم الأصوات والصياح: همّوا يا جماعة·· وَلْ من هين مهُ من هناك·· خطوة خطوة بس·· إي عندك·· وينها فاطمة·· فاطمة يا فاطمة·· تراها رجعت·· خَلي تقول لجاسر يعجل·· حامد قرب جاي·· تراها تسمعك·· علّي صوتك·· هدلة·
تغلغلت وسط البستان، كانت طويلة مثل أمها· من يرها من الخلف يظن أنها أحد الرجال، فمنكباها العريضان يدلان على ذلك· كانت وسط البستان، في ثوبها الناري، تلقي جدائلها على صدرها الناضح، ومن يرها يظن انها أنثى لعاجز عنين·
ولم يجرؤ على الالتفات، لقد دفعته بعينيها الرصاصيتين، قالت له: تفو عليك·· روح سوي مثل الزلم·· عجي· غير أن أعماقها كان يختلج رغبـة، لقد سمعت لهاثه خلف شجرة النخيل القريبة من الحائط، ورأته زائغاً في جذعها·
حينما عادت كدرية، كان صالح مجتمعاً مع الرجال في ديوانه، اقترحوا ما قررته دلّة: نرفع الهواشة ثلاثة أذرع، ونصل منبت الهواشة بسدتنا، ثم نرفع هالسدة بطول يوازي الهواشة، هيك نصون البساتين والبيوت، باكر بإذن الله نبدأ·
وبدؤوا في أحد صباحات آذار، كان رجال صالح الساير بأعدادهم التي تجاوزت العشرين يقومون نشطين، يرفعون قامة اللسان، بالصخر والجص والحصى الكبيرة· وكانت هناك عربتان تنقلان الصخر من مقلع الطوب وراء جفر حية السلطان إلى الجوبة، لتدعيم اللسان، أدى كسر عجلة إحدى العربتين حين أرادت الصعود الى مدخل البلدة، وهي مثقلة بحمولة الحجر، إلى تأخر العمل في اليوم الأول، وتذمر صالح الساير الذي أكد للسائس بأنه لا يتقن السيطرة والتوجيه، قال للسائس: تلف·· أي تلف·· ما تجي شق رأساً·· تلوح بيدك حتى تشوف حالك صرت بسد الباب· رد عليه السائق: إيش كار يدي، هي خشبها تعبان ومحاورها هتيانة بعدين قلت لك ما تحمل كل هالشيء، قلت لي روح إيش بها !
وأخذت السدة المقامة عند منبت اللسان ترتفع وتزداد عرضاً مع الوقت· وفي اليوم الخامس غنت كدرية بصوتها الأجش( إن هلهلتي هلهلنا لك )، وكانت تريد أن تبعث صوتها إلى أعلى قمة في البلدة، تريد أن تؤذن بصوتها حتى يسمعها إسماعيل الذي فقد سمعه من قتاله مع ولد الهذال في شمال العراق (طقينا البارود قبالك)، ثم راحت نجود العلي تصعد صوتها المطعم برائحة البراري، هذا الصوت الذي جعل محمد يحس أن الإغماءات التي انتابته في المدة الأخيرة، من دون طيف فاطمة، لها مذاق مر حزين·
استدار وهو ما يزال في وسط الحوش، إلى باب الحائط الفاصل بينهم وبين تراك الناصر· طلب من الله أن تكون فاطمة بين يديه حتى يعانقها، يتخلل في رنة أساور يديها، أو أن يدنو بخفة من عنقها حين يهتز قراط الذهب·
وأحس بحرارة تقصم أضلاعه فتملكه الحيار في وسط الحوش· نظر إلى هدلة التي دخلت المطبخ دون أن تعيره انتباهاً· ثم أدار رأسه المتصلب، إلى جهة الباب المطل على الدرب، فرأى من بعيد ظل أخيه الصغير، ناداه بعينيه الزائغتين، أحنى ظهره وتقاعس على قدميه الرخوتين، وسمع فاطمة تنادي أخاها الصغير، سمع صوتها المتباعد: مشهور·· يا مشهور··يفصله الحائط ذو الباب المغلق (مشهور ) يفصله مقدار من الزمن الآخر·· وكحلم وخيال، ظن أن العالم يتقد نحوه، الظلال المتراصة تعدوا باتجاهه، ولم يدرك سوى أن صدى آخر يتقدم اليه، رغم أنه بكاه كجبان منذ ثلاثة أيام· قال له أبوه: ابعد يا جاسر، مثل البنية تبكي·· قال له أبوه: يا ول·· ترى أخوك قدامك·· أها ما به شيء· قال أبوه: دوخة بسيطة ما به شيء· كان يقترب منه·