في رواية "صدى الزور البعيد"؛ هل يكون العالم الذي نعيش فيه جزءاً من عالم أكبر؟
أنت هنا
قراءة كتاب صدى الزور البعيد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 3
لم يكن بناء السدة لحماية بيوت العلوة فقط، بل لحماية البستان المنبسط على سفحها· ترتفع العلوة ببطء من ناحية النهر، وبعد البستان هناك حوش عبد الله الرحبي ذو الباب المطل على البستان، وفي طرف البستان الآخر شجرة التوت الكبيرة، شجرة زايد جد ناصر زايد الرحبي، الذي قال مرة حين زرعها: ستكون هذه الشجرة شاهداً على العلوة· وحين كان يتذكر ملامح العلوة كان يقول: إنها في وسط المياه، كانت تصعد كحويجة خالية من الأشجار، يابسة بور· وذلك قبل تراجع المياه عن جدران الرحبة·
أما الطرف الجنوبي للعلوة، فينحدر سفحاً مطمئناً ثم يمس النهر بجرف، يزداد عمقاً كلما ابتعد عن العلوة، حتى ليبدو على بعدوادي يحته النهر كل ساعة وكل يوم· وهذا ما كان يشغل تفكير عدا زايد الرحبي والد ناصر، لمدى طويل، حتى وجد الحل، بإقامة لسان صخري( هواشة ) في منحدر السفح، يمتد إلى داخل الماء ليمنع تآكل الجرف وانهدامه· وفي هذه الأيام بدأت المياه تقترب من سطح اللسان القديم، فتوقع صالح الساير أنها ستلقى ذراه في الأيام القادمة، وستصل يوماً ما إلى بساتينه وبيته الكبير( سرايا الجوبة ) كما كانوا يسمونه·
التمعت عينا كدرية لما رآها محمد الرحبي وهي بجانب السدة، أدرك أنها تطوّف عينيها الساحرتين على ذلك العمل الذي أنهك قواه، فالتفت من فوق السدة إلى اللسان الصخري البعيد، فوجده منخفضاً عنها، لا يقاوم دفقات نهر أواسط نيسان، وأيقن أن صالح الساير سيقوم بتدعيمه ورفع قامته· وفي اليوم الثامن من عملهم كان رجال صالح الساير يقومون فعلاً برفع قامة اللسان، ولم يخطر في بال محمد أنهم سيصلون إلى سدتهم نفسها، بوصل المسافة الفاصلة بين اللسان والسدة بسدة أخرى· وذلك ما كان يؤرق حقيقة عبد الله الرحبي· فاللسان سيدفع قسماً من المياه إلى سدة الرحبي·
وفي اليوم التاسع قال عبد الله الرحبي لابنه، موضحاً مشروع صالح الساير· قال له: يا ولدي هذا ملعون، يريد يهدم بستاننا قبل بستانه، شنو ! ومرت الساعات ثقيلة، ولم تكن تبارحه عينا كدرية القمريتان، لاحقتاه في كل دقيقة، وظن أن فاطمة في حيز من الآنات تكاد تهرب منه وتنفلت مبتعدة·
ولم يكن هناك تحت شجرة زايد سوى خمسة رجال، تفرق الآخرون، ذهبوا، ولم يبق إلا محمد فوق السدة يركن الصخرة الأخيرة على سطحها· ومن بعيد تناهى إلى مسامعه أصوات رجال صالح الساير يبنون السدة، ويكاد يميز من بينهم صوت كدرية يعلو أحياناً ثم يغيب· الطريق المنحدرة كانت فارغة، فاطمة التي صعدت قبل قليل إلى العلوة بعد أن جلبت لهم فرش العصيدة لم تترك على الدرب أي أثر، حتى النسمات الرقيقة التي بعثها سطح النهر في أثر فاطمة تراك الناصر اختفت وزالت، جف الجو في دقائق قليلة، وسرى في النفوس ضيق من جديد، ولم يستطع عبد الله الرحبي أن يبعث لقم العصيدة الساخنة إلى سقف فمه، كانت يده ترتعش وهو ينظر إلى ولـده المترنح· ولم يشأ أن يصدق تعليق فاطمة الطيب على ابنه يوم أمس، لما زعمت أنه يخيفها متقصداً عندما كان داخل الطرادة، قالت له وهي تجلجل ضاحكة: تخوفني·· ول·· ما لي قلب، والله حسبتك·· بعيد الشر يا محمد· نظر من فوق جذعه المستدير إلى منحدر العلوة وتساءل: هدلة ! لحظات الزمن كانت تقيده من حلقه، فرمى عينيه الجاحظتين إلى دائرة الرجال الذاهلين، ولم يرد أن يصدق أن خليل فزّ كالمخبول باتجاه السدة دونما صوت، قفز كالطير وتبعه بقية الرجال، وصاح عبد الله حين خانه التحفز: يا ولدي·· الشر عليك·· يا ولّي حربة النجم·