في رواية "صدى الزور البعيد"؛ هل يكون العالم الذي نعيش فيه جزءاً من عالم أكبر؟
أنت هنا
قراءة كتاب صدى الزور البعيد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 8
-3-
الرجال الذين يأكلون العصيدة تحت شجرة زايد، هرعوا يتراكضون إلى الصريع، قبل أبيه الخائر القوى· وراء حامد كان خليل ثم حسن بن عبد الله وأخيراً رداد الزغير، وظل عبد الله في مكانه يحدق إلى منحدر العلوة، وقد اعترته حالةجمود· وحين استطاع التغلب على الوهن المفاجئ، رأى هدلة وخلفها جاسر ينظران من أعلى العلوة بتساؤل، ثم ينطلقان: جاسر وتتبعه هدلة، وخلفها بعد زمن قصير فاطمة، تريد أن تطير وهي تحمل طاسة الخرعة·
هبطا العلوة، يعتريهما شعور الخراب· سمع جاسر همهمات أمه الفزعة وراءه: يا ويلي يا ابني، انهدم بيتك يا هدلة· وشعر وعيناه تكاد تثقبان السدة، لتريا ما حل بأخيه، أن هدلة على علم بمصاب ابنها· أخذته إلى الشيخ مزعل، حين عادت نوبته مرة ثانية، كان هناك عايد وعبد الله ومعهما جاسر، قال الشيخ مزعل بتحفظ: إذا تكررت هالشهر أكثر من ثلاث مرات·· أخاف على الوليد· وتذكر جاسر أيضاً تعابير وجه أخيه عصر ذلك اليوم، حين خرجوا من البيت، وقطعا الدربة الأولى، عندها حاول محمد أن يتجه بمفرده إلى الخان بعد أن أومأ لأخيه بالذهاب إلى بيت خاله عايد كما أوصته هدلة، أدار جاسر ظهره إلى حيث تنحدر الطريق قليلاً، إلا أن النظرات الأخيرة التي ارتسم بها وجه أخيه جعلته يعود إليه بعد خطوة أو خطوتين· كان محمد شاحباً مغمض العينين، وبدأ يتهاوى ويده على قذاله، وقد استطاع جاسر أن يسنده قبل أن يسقط، مندفعاً بقوته، أشار محمد بيده إلى الحائط، فعادا قليلاً إلى الوراء، وأمعن النظر في وجهه الأسمر المشرب بلون الفضة، ودّ وقتها لو أن عينيه تشعان شفاء وحياة، كما سمع مرة من جدته وزنة الخضر عن أحد المتعبدبن الذين وهبهم الله قوة الشفاء بالعين· وكانت عيناه مزمومتين وهو يهبط العلوة، ضمهما بقوة حتى يفتح بهما حجاب السدة· واستمر يجري، خلّف هـدلة وراءه، بعيدة، قفزاته تطاولت· وهو يهبط لمح وجه كدرية ممتلئاً في قبة الأفق، شارداً متسائلاً، كأن عينيها مخضلتان· وسمع صوت أبيه: اتركوه·· وسّعوا للهواء·· ابعدوا·· محمد! ثم وصلت هدلة، وبعدها فاطمة تحمل طاسة الخرعةالمزركشة بسورة الإخلاص، فأخذها رداد وملأها من ماء النهر، ثم وضع رأس محمد بين يديه وراح يقول: اشرب·· بسم الله شفاء·· الشر بعيد بعيد بإذن الله· وارتجف جاسر، خنقته العبرة ثم انطلق يعوي كحمل جريح· قال أبوه: ابعد·· وتبكي مثل البنية !
عصر ذلك اليوم سألته فاطمة، فقال لها: لا إنشاء الله زين، يمكن شفيت، إني هسّع أحسن يا فاطمة· ثم تابعت بعد صمت، عندما لحظت حمرة تفور في وجنتيه: تراك قطعت قلوبنا· وهمست: خوفتني يا محمد·
في المساء غص البيت· جاءت الجدة وزنة، وكان عايد الخضر هناك أيضاً، ورداد وأمـه عطشة الذياب عمة عبد الله، والرجال الذين بنوا السدة، وكان حسن ودحام يتهيآن، بعد أن اصطادا عشر سمكات كبيرات، للعودة· فجهزت هدلة قدر النحاس الكبير، وساعدتها خود، أما النساء الباقيات فقد عجن طحين القمح لخبزه في تنور في زاوية الحوش اليمنى·
أفاق محمد ضحى اليوم الثاني، مشرقاً فواحاً، أمامه العالم منفتحاً متكاملاً· وداخله رغبة في إتمام ما بدأه في الماضي، الماضي البعيد، فالتراب الذي فصله عن آخر أوصال الطفولة ومنحدرات الملاعب رآه يعود· أحس أن ليله يصل نهاره· النهار قادم مجهول ذلك ما كان يراه في ساعات التفكر واليقظة· حين كان، يعد السنوات ( الآتية ) يظن في قرارة نفسه أنها سنوات بلا زمن، فلعلها من طينة أخرى، السنة القادمة بعيدة وغريبة·· بعيدة بالقدر الذي يستطيع فيه أن يخلق العالم مرات ومرات قبل أن تأتي السنة الجديدة، وغريبة طوال الوقت الذي يعيش فيها أيامه ودقائقه· ومع كل هذا كانت أيامه متشابهة متجانسة، لا تختلف كثيراً عن بعضها، وإذا اختلفت فإنها تكون أحداثاً متميزة يذكرها الصغير والكبير·
استيقظ صباحاً وخياله ينمو في أرض قريبة من صدره· وألحّت عليه فكرة أن فاطمة من روحه، بها يمسك الليل والنهار، كف الحياة بالزمان - أغمض عينيه فناولته زجاجة مسك، وتدفقت أشعة الشمس من فرجة الباب·
تمطى وباعد يديه، ثم فتح صدره للهواء والصباح· ومع أنه سمع من يبنون ويعملون في سدة الساير، فتذكر غمرة المشاعر التي استغرق فيها يوم أمس، لكن ذاكرته ظلت طيبة حنوناً· والسريان الطيب في نفسه جعله يغفر لكدرية أيضاً، رغم طبيعته· الإنسان دمية مفتوحة يلعب في جوفها هواء وذرات طين· وكيف لا؟! تصور في استحالة أخرى فاطمة· وراح يسير خلفها بتوجس، ذلك حين تركت السدة وغابت في بستان عبد الله· وكانت بهمة ضبع وقلبها يعزف· وتساءل قبل أن يدخل البستان، لماذا عادت قليلاً إلى الخلف ثم توارت خلف شجرة النخيل ؟ فخلع نعليه المصنوعين من جلد الماعز، وكتم انفاس صدره ثم لوى طريقه بين الشجر· كان كالهمسة فلم تسمعه كدرية، فأصاخ سمعه وراح يتنصت: تذكر يوم قالت له كدرية: قلبي مه لك·· ابعد· عندها ابتعد ونأى، أسرع إلى الحويجة، فرمى عليه لباسه، ثم تظاهر بعدم الغضب· راح يسمع من خلال الأشجار وقلبه حنق، وكانت الساعة تسعى، فقد أبصر في صباح اليوم إلهام نبوءة، أنه لا محال منطفئ يوماً بعد يوم·· سمع صوتاً خفيضاً، بينما كان وراء البستان ثم آهات، وأخذ يحدق في جذع الشجرة الملتوي· من ؟ سأل نفسه، من ؟! لو لم يكن هذا الوقت في هذه السنة، ولو كان الوقت منذ سنتين، ولو كان المتلصص غيره، حينها لقال: إنه محمد·· ومن غيرهمها، في هذا الوقت، تحت شجرة النخيل المهتزة·