في رواية "صدى الزور البعيد"؛ هل يكون العالم الذي نعيش فيه جزءاً من عالم أكبر؟
أنت هنا
قراءة كتاب صدى الزور البعيد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 4
-2-
تنخفض الجوبة عن العلوة، فيبدأ حدها العلوي من وراء ظهر بستان عبد الله، ثم تتكاثر البيوت في الجهة القبلية من البستان، تمتد إلى نهاية السور القديم الذي دافع عن البلدة ضدحملات تيمورلنك، حيث هناك تنهار البسيطة مشكّلة ودياناً وأجفاراً واسعة تتراكم فيها نفايات البلدة· وسكان الجوبة من المالكين الأكثر غنى، تركوا العلوة لما طفرت بمواليدها، ونزحوا إلى البسيطة وراء مزارعهم التي كانت محدودةبداية الأمر ثم ما لبثوا أن وسعوها فامتدت إلى خلف السور، مجتازة بذلك الوديان والأجفار· لقد زرعواالقمح والسمسم والذرة، وكانت أراضي القطن تمتد إلى ما وراء الأفق·
وكان غناوي الساير المالك الأكثر غنى في زمنه· قدم لقائد العسكر في البلدة بيته الكبير عربون محبة وولاء· وأقام إلى جانبه منزلاً لا يقل عنه فخامة، كان يطلق عليه اسم سرايا الساير· وراحت أراضيه الواسعة تتقلص بشح السماء المتزايد، وهجمات الأعراب المكرورة على البلدة· فمن الطرفين كانت البلدة تتقلص وتنكمش، من طرف السماء ومن طرف الأعراب، إلى حد خمّن بعضهم أن نهايتها سيكون جفافاً وموتاً، لا طوفاناً وغرقاً·
ويتطاول بستان الساير بأشجار التوت والنخيل والرمان المتناسقة على طول الضفة إلى حد السور الغربي، لقد أطلق عليه في أوج انتعاشه اسم جنة العلوة·
وكان صالح غناوي الساير أيام شبابه لا يترك البستان، لا يرغب الحب إلا هناك· في الأصيل وعند الغروب تزدحم نفسه طرباً، وكثيراً ما كان يلعب الاستغمامة مع الشمس الحمراء، أو مع وجه نورا الحمد التي ولدت له كدرية، بزواج سري شهد عليه ضوء القمر الفضي· ولقد حنق والده حين علم بالأمر، لاحظ انتفاخ بطن نورا يتزايد مع الأيام، فانتظر الفرصة بصبر وأناة حتى واتته، فألقى بنورا الحمد من فوق الهواشة قبل الولادة المكتومة بدقائق وثواني· وكانت المياه التي راحت تلتهم نورا الحمد تدفع بالمولود إلى الأعلى، حتى جاء على صوت الوليد من يُظن أنه على علم بكل ما كان يدور في خيال غناوي الساير، فبادره الأخير إلى لعلعة صوته في الفضاء صائحاً: يا ناس غرقت نورا، يا ناس نورا غرقت، يا أهل المروءة· وقد عاهد صالح أباه قبل موته بأنه لن يعترف بأبوته لكدريةأبداً· غير أن قلبه لان لها وطرى عند شبوببتها ويناعتها، فرضى أن تبقى إلى جانبه، خادمة في البيت وابنة غير معلنة·
وكان غناوي الساير، بأبهة ملاك مخاتلة، فحضوره آسر يتزعم المواقف ببراعة، أما ابنه فكان كما حزرت أمه يوم قالت أن ابنها صالح يشبه جده لأبيه رداد الساير الذي باع أرض الحويجة من أجل قصعة ثريد· لذلك اهتم غناوي في مسألة زواج ابنه، فاختار له دلة الغانم التي عاشت في أحضان أمهـا نبهـة الغـانم بالقرب من مضارب شيخ الزور، في ضفة النهر المقابلة· قالت دلة الغانم في وسط الحوش وهي تجلس القرفصاء، تشير بعصا أمسكتها بحكمة إلى خطوط رسمتها على الأرض، وإلى جانبـها صالح الساير: ( من هين نبدأ، زين تكون متينة من هالطرف ومن أذيال الطرف الثاني، يا أبو خليل·· ما منها مهرب، تسمع هوسات زلم عبد الله ! راحوا يخلصونوباكر جاي النهر· وطيب نصل إلى سدتهم، سـأل صالح، فردت: ( اي شنو ! وبستاننا يا أبو خليل ! )·