في رواية "صدى الزور البعيد"؛ هل يكون العالم الذي نعيش فيه جزءاً من عالم أكبر؟
أنت هنا
قراءة كتاب صدى الزور البعيد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 9
لكنها انتبهت، رأت بعيني قلبها أحاسيسه وهي ترقبها، فتملصت من يديه، دفعته في صدره، فارتمى خليل على الأرض· قالت بصوت عال: تفو عليك·· عجي· إلا أن محمد كان قد مضى· لقد تراجع والغضب يتوزع فيه، في نفسه قال: وَلْ هذه مثل أمها·· تعطي مَيها لكل سابح، عوذة منها عوذة· عاد إلى السدة·
ونفض عنه النوم· أبعد اللحاف عن جسده الرطب، وقف بباب الغرفة يتأمل النهار يرتفع، نظيفاً ناصعاً، وكل شيء كان يقول: ياللا·· من الأول·
هـذا التحول في قريرته لم يكن فقط من الحوادث التي وقعت في البستان، أو على السدة، بل ذهب إلى أيام الطفولة، يوم كان ولداً، عندما نهره أبوه حين كـان مـع تاضي ابنـة رداد الزغير وهـما يلعبان ( بيت بيوت ) تحت قبة غرفة المؤونة في طرف الحوش· أرادا في ظهيرة ذاك اليوم أن يمثلا دور العريس والعروس، كهجان وسروة اللذين تزوجا منذ أسبوع· لقد سأل أمه ليلتها عن الزواج وعن هجان، ولماذا تترك سروة أهلها وتذهب إلى بيت أهل هجان· فبينت له هدلة وهي تمسد حاجبيه، ان الرجل يتزوج لأنه يحب زوجته، ولكي ينجب الأطفال· وفي الغرفة المغلقة، حين دخل هجان على عروسه، تخيل محمد الرحبي أن أول ما يقوم به هجان هو تقبيل سروة، يحبها من خدها ومن يديها، قال لتاضي ذلك داخل غرفة المؤونة، ثم ينام إلى جنبها في فراش واحد، لينجبا أولاداً· وقد نهره أبوه إذ رآه مستلقيا بجانب تاضي داخل الغرفة، قال له أبوه: يا ول·· قليل الحياء، اطلع· وأردف: إيش تسوي بالبنية، شنو·· يا ما تستحي، عيب· وفي إحدى الليالي، نام محمد متأخراً، في ضوء القمر، وسمع أباه وهو يندلس في فراش أمه، بعد انحلال جمع الرجال على الأسطحة المجاورة، وافترض بمضي الوقت أن الصوت الذي سمعه جاء من والدي فاطمة، عن نومهما العميق وما يرافقه من أصوات عديدة، كان يسمعها أحياناً من عبد الله أثناء نومه، كأن ينادي أو يدمدم·· يتأوه بوجع وحرقة· لم تطل مدة الصوت الخافت، ما لبث أن زال، فظل وحده يوزع ناظريه في قبة السماء المضيئة إلى أن سمع همهمة ثم حركة صادرة عن أبيه في الفراش· أصاخ السمع وأرهفه على الحركة القريبة منه، فالتقطت أذنه ضحكة جنين لهدلة، ثم أعقبها صوت كفرقعة بالون صغير، أغمض عينيه وانكمش على وسطه، وعلم من فحيح اللحاف أنهما غير نائمين، هدلة وعبد الله يتجارزان، فأطل بعينه اليمنى على اللحاف الآخذ شكل قبة، واستطاع تمييز يد هدلة تضغط على رأس أبيه، ثم تشد اللـحاف قليلاً إلى الأعلى· استدار بجسده إلى الجهة البعيدة ضغط بظهره على الفراش وغاص حتى سقف السطح، تمنى لو أن الفراش عتمة ليل·
ظلت هذه الواقعة وما تلاها، تلاحقه حتى السنين القريبة· وإذ يذكرها تخرج دخيلته السوداء فيزحر بحرقة، وصمم في آونة الشباب أن يبتعد بفراشه عنهما، إلى المكان لا يسمع منه شيئاً أو يرى· ولقد كره القمر ولياليه المضـيئة· كان ينظر إلى وجهه في وسط السماء، فيجده بعين واحدة، يسطع بخرق على العالم· وتحدث مرة إلى نفسه: لماذا يقوم النهار إذا كان الليل هكذا مضيئاً ؟ شعاع الشمس ينطمس في النهر ويغيب كي يخرج منـه القمر النائم· وإن خرج القمر من النهر فإن خروجه لسبب وحيد· كل سنة يأخذ النهرمن العلوة شاباً أو أكثر· السنة الماضية غرق فيه صياح الزغير وغرقت فيه أيضاً خنساء الساير· كل عام يبتلع· فهو لا يقنع ولا يرضى· وفي الليل يخرج بلاياه: يبعث القمر إلى كبد السماء، ليتجول كالنسناس، دون حس، كي يختار ضحية النهر· إنه شمس الشيطان·
ضحى اليوم انفرط البغض القديم، تبعثرت حباته السوداء، مر شريطاً من صدى في ذاكرته· خرج من باب الغرفة إلى وسط الحوش· فرقع فقرات ظهره الشاحب، وخمن الحقيقة التي افترضها حلماً: لم يستيقظ على طيف عبد الله، لقد كان حقيقة فوق رأسه، يتفحصه بدقة، وقد عاد عبد الله قبل أن يستيقظ ابنه بقليل، عاد ليقول لهدلة: إن ابنها ما زال نائماً، وجهه مثل ورد الختمية· وأثارت الحركة في المطبخ سمعه· هنالك عبد الله يطلب من هدلة، نسمات الصباح واللواقح· وارتفع صوت هدلة المبتهج: ابعد يا بو محمد·· لا يجي أحد· ثم تنامى إلى سمعه الاضطراب والمشاركة، مزيج الخلق: دير بالك·· الباب مفتوح· لا تخافي· كان أبوه مطمئناً، فلم يكن أحد في البيت، جاسر خرج مع حسن، وخود تسللت إلى سدة الساير، وكان الباب مغلقاً، أغلقه عبد الله· فعاد محمد وقلبه يخفق بشدة، ابتسم لصوت عبد الله، أحب هدلة المختلطة مع زوجها، ود لو يقف هناك ويتمثل الصورةفي الحياة· عاد على رؤوس أصابعه، دخل الغرفة، اندس في الفراش وأغمض عينيه ينتظر عبد الله الرحبي·
حل الليل وتوسعت السماء في ضياء القمر الغريب، انفتحت في سقفها أبواب كثيرة، حادة، كان جاسر يعلم أن أشياء جديدة ستحدث، فهدلة أكدت له ذلك· ووقف في وسط الحوش، وحيداً تحت السماء المضيئة، وأمعن النظر في سطوع القمر الغاوي· لأول مرةيرى مثل هذا الضياء، تذكر القمر وشكله في الليالي السالفة، فأيقن أن السماء وقمرها جديدان، لا مثيل لهما· نادى بصوته، فخرجت هدلة· قالت هدلة: ما هو سوى هالة، القمر مهيّل السنة يا جاسر·