رواية "الموتى لا يكترثون"؛ لم كان الموتى يتكلمون؟
أنت هنا
قراءة كتاب الموتى لا يكترثون بالورود
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 1
I
حلا لحلمي في يوم ماطر قارس البرد، كما في شتاءات باريس، أن يقفز كعادته من فوق بوابة الميترو· يدعي - مغالياً - أن شراء بطاقة مثل الآخرين ضد مبادئه الفوضوية، وإن كان ذلك في الواقع بسبب إفلاسه الدائم·
لم يكن حلمي يعرف من الفوضوية التي يجاهر إيمانه بها سوى ما يخدمه، وإن كان أي حوار معه عن الفوضوية كمبدأ فلسفي يكشف جهله المطلق بها لدرجة يصدق به القول الشعبي ( من كثر معرفته بالصحابة بصلي على عنتر)، لكن للإنصاف ينبغي الاعتراف أن معطفه الواسع لشدة نحوله، المائل إلى خضرة المعاطف العسكرية وشعره الأشعث الطويل الذي لا يقصه في السنة إلا مرتين، لأن ذلك في باريس مكلف، علاوة على ذقنه الذي لا يحلقه إلا مرة كل أسبوعين، كل ذلك يذكر بفوضويي نهاية القرن التاسع عشر كما درج على تصويره في الأفلام السينمائية·
في دفء المحطة الأرضية الذي راق له مرَّ قطار، اثنان دون أن يكترث أو يحرك ساقيه اللتين مدهما على طولهما بعد أن بدأت الحرارة تسري فيهما، وفي جسده غير المهيأ لمواجهة برد كهذا لنقص في ثيابه وقلة في زاد مغذ حار· علاوة لم يكن قد قرر وجهته بعد· كما لم ينظر إلى خريطة الخطوط خلفه عندما نهض بتثاقل ليدلف مقطورة القطار الواقف قدامه· كان فعل هذا، في نظره، بعد عشر سنوات من الإقامة في المدينة والتنقل يومياً في قطاراتها وحافلاتها،، أمراً مشيناً·
في دفء القطار كان قد غفا قليلاً ورأى مناماً·
حائط أسود تعلوه كوة يصب عبرها ضوء ساطع في خط مستقيم يسقط على أرض الحجرة العارية تماماً من الأثاث باستثناء منضدة بيضاء على طرفها فنجان قهوة ومنفضة رماد سجائر فيها لفافة ينبعث منها دخان متعرج·
ثمة صوت طائرة مروحية آت من بعيد، يزداد ارتفاعاً كلما ازداد اقتراب حلمي من المنضدة· عندما دنا منها أصبح الصوت ضجيجاً يصم الآذان· فجأة توقف الصوت تماماً دون سابق إنذار وانفجر ضوء الكوة كأنه فلاش آلة تصوير·
رفع يده عن عينيه فلم يجد المنضدة وما عليها· أصبحت الحجرة بيضاء بياض ثلج ناصع· كموجة سرت في جسده رعشة خوف لا قشعريرة، فلقد هاله بياض الحجرة، نظافتها وخلوها من الأثاث·
أيقظه صوت انفتاح أبواب القاطرة· تلكأ في هبوط الدرج المرتفع عن الشارع في محطة لاموت بيكيه نصف المكشوفة التي كان قد بَلَّ أطراف منصتها المطر قبل أن يهبط عليها من القطار·
يحب هذه المحطة، لا لأنه ينزل درجاً على عكس معظم المحطات الأخرى، بل لأن مفاجآت مراقبي التذاكر هنا أصعب، كما يمكنه التراجع بسهولة إذا رآهم· وقف متظاهراً بأنه يبحث عن شيء في جيب معطفه، حتى يرى حركة انسياب هبوط الركاب، مؤشر وجود المراقبين، الانسياب الطبيعي السريع يعني عدم وجودهم، وهذا ما لا يحدث الآن· عاد ليجلس على مقعد وكأنه ينتظر أحداً· شاهد السماء الملبدة بالغيوم وحماماً يبني عشه على حافة ما يغطي المنصتين من ستار حديدي ثقيل·
حين طال انتظاره وبدا أن المراقبين لم يذهبوا، راح يذرع منصة المحطة الصغيرة من طرف لآخر، وأحياناً يقف متظاهراً أنه يقرأ إعلانَ مُلْصَقٍ على الجدار· حين لم يلحظ أي تغير في حركة هبوط الركاب للدرج، لم يجد مناصاً من الفرار إلى المحطة التالية ويعود سيراً على الأقدام، وكأن جسده النحيل بحاجة لهذه الرياضة المتعبة، في نظره·
شارل ميشيل ليست إحدى محطاته المفضلة، رغم كل مواصفاتها الشبيهة بالمحطة السابقة، ذلك أن يَدَ التجديد قد وصلت منصتها، وبلَّطتها ببلاط أبيض، بياض الحجرة التي رآها في المنام من لحظات·
التجديد لم يقلق حلمي، فهذا آخر مشاكله، بل البلاط النظيف الذي تمنى لو يسكن في بيت بلاطه أبيض نظيف كبلاط المحطة·
هذه المرة لم يتلكأ، لم يتظاهر أنه يبحث عن شيء، غير موجود أصلاً، في جيوبه الخاوية، ليرى حركة انسياب الركاب· هبط الدرج بسرعة وأمان· علمته التجربة أن المراقبين لا يتواجدون في محطتين متتاليتين· هبط الدرج إلى الشارع العريض، ذهب إلى الرصيف المقابل للمحطة ليشاهد كيف ينحني القطار القادم من محطة بير حكيم على الجسر المعلق، منظر يروق له كثيراً، ثم عاد تحت الجسر الحديدي الذي يفصل الشارع إلى قسمين وسار تحته، تذكر ما قاله صديق يوماً إن من يجد نفسه تحت جسر معلق صدفة حين مرور قطار تتحقق أي أمنية يطلبها وكيف أثبت له أنه مخطئ، حين مَرّا صدفة تحت الجسر مرة، لأنه تمنى أن يسقط عليهما الجسر ولم يحدث ذلك·