من هناك، من تلك البيوت الناعمة المنمنة، من على سفح في جبل لا أعرف اسمه، من ضاحية النخيل، قلت لها كما قال نزار قباني: (صباحك سكر) يا عمّـان. صباح الورد والندى والخزامى. صباح الليلك والجوري وشقائق النعمان. أتهيّأ معك الآن ليوم آخر من أيام العمر.
أنت هنا
قراءة كتاب عن الأردن ومبدعيه
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 3
صباحك سكر يا عمان
ماذا يعني أن تحيا ستة أعوام في الغربة؟.. اثنان وسبعون شهراً في بلد لم تولد فيه؟.. ألفان ومائة وتسعون يوماً بين عمّان وجرش
وأربد والكرك وطريق شفا بدران والزرقاء وبيادر وادي السير واسكان أبو نصير؟
ماذا يعني هذا كله بالدقائق والساعات؟ وأين منك ذاك الحنين الذي أعادك ذات يوم (وأنت في روما) إلى أزقة بغداد حتى تبكي على
ترابها مثل طفل ما عاد يقول (ماما) إلا ليحتمي بها من الذعر الذي ينام بين ضلوعه ويصحو على غروب مخيف في الروح، أين منك
أيها الخائف من نفسه المهووس بالحياة، أن تبقى كل هذه السنوات وأنت تسأل عما جرى هناك في بيتك القديم، في الحارة التي سكنت
فيك والشوارع التي مشيتها كل يوم، والأصدقاء الذين أحببتهم.
كيف ترى نفسك اليوم وأنت في عمّان على بُعد ألف كيلو متر تفصلك عن خمسين سنة من سنوات عمرك التي عشتها بين بغداد
والسمك المسگوف، بين البصرة والعشار وبارات آخر الليل، بين سينما الفردوس وشقلاوة وأشجار اللوز، كيف ترى نفسك وقد غادرت
البيت والزقاق والنميمة الفكهة بين القصاصين والشعراء وأرباب الثمالة والرعب من الجندرمة ولصوص آخر الليل وهم يسرقون منك
الحلم الذي قررت أن تراه عند سقوط الفجر؟ كيف باللّه عليك بقيت في عمّان كل هذا الوقت وأنت الذي عدت من روما تبكي بغداد التي
لا أحد فيها غير الأحزان وذرف الدموع، وأمك التي ماتت بين يديك وهي تسأل نفسها (أين أنت) لا تدري انك تمسك رأسها لئلا يسقط
سهواً على المخدة؟!
سبحان الذي غيّرك أيها الولد العاق الذي تهرأت عظامه في المحطات والمدن النائية البعيدة المليئة بالغرف الحمراء وصالات القمار
وأحلى نساء الأرض، من أين جاءك هذا العشق المخبول حتى تبقى في عمّان وترفض أن تغادرها؟
هل أحببت عمّان إلى هذا الحد؟ كيف تمكنت من البقاء بين أسواقها وبيوتها وشوارعها ومقاهيها كل هذا الوقت؟ اثنان وخمسون ألفاً
وخمسمائة وستون ساعة وأنت بين أحضانها ترفض أن تقول كلا، مع انها لا تشبه باريس التي أدهشتك ولا بوخارست التي رميت
نفسك عند رمال بحرها في مامايا وكونستانسا ولا تشبه روما التي جننت بها، ولا لندن التي أمطرتك في الشتاء والصيف والخريف،
كما انها لا تشبه أيامك في بودابست ولا بيروت ولا استانبول ولا بلغراد ولا تيريستا، فماذا جرى حقاً حتى ترفض الخروج منها؟
لا تكذب، المطر ينهمر في العاصمة وارشو وأنت تمشي بلا مظلة، والنار تستعر في صيف القاهرة وأنت تمشي بثياب بللتها الرطوبة
ولا تشكو من الرمضاء التي تحوم لصق خطاك على رصيف قصر النيل، بينما بيروت التي هبطت على قمة رأسك وأرادت منك البقاء
فيها، مضيت عنها إلى قبرص واليونان وأنت تقرأ (لا مذكرات) آندريه مالرو تسأل نفسك: ماذا فعلت باريس لتصبح باريس؟! وماذا
فعلت روما لتكون روما؟