أنت هنا

قراءة كتاب عن الأردن ومبدعيه

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
عن الأردن ومبدعيه

عن الأردن ومبدعيه

من هناك، من تلك البيوت الناعمة المنمنة، من على سفح في جبل لا أعرف اسمه، من ضاحية النخيل، قلت لها كما قال نزار قباني: (صباحك سكر) يا عمّـان. صباح الورد والندى والخزامى. صباح الليلك والجوري وشقائق النعمان. أتهيّأ معك الآن ليوم آخر من أيام العمر.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 6
رأيت كل هذا، نعم، لكن ما يزال عندي من الوقت الذي أحتاجه لرؤية القصر الأموي وصالة العرش حتى أتذكر عزف الريح وهو
يضرب على أبوابه منذ مئات السنين، عندي من الوقت ما يكفي لرؤية حمام الصراح وأم السرب وأشجار البلوط والحنّاء، لا بد من
عجلون ومار الياس وخربة الزيدقون وذيبان وجبل ينبو، أنا أحتاج الوقت كله حتى أتعلّم صعود الجبال قبل أن أسقط في وديان الصمت
والنهاية.
البلاد، أي بلاد في الكرة الأرضية، لا تُرى مرة واحدة حتى تبقى في شريان الروح والذاكرة، انها تتسرب مثل الدم في الوريد، تمشي
بك وربما تطير معك بجناحين عملاقين حتى تحطّ على عبدون أو تنزل بك في كهف النبي لوط، البلاد لا ترى في زيارة خاطفة أو
رحلة سياحية تكتفي بها من رؤية قشرتها، بل تحتاج إلى سنوات من الصبر حتى تفهم معنى أسطورة البتراء أو جبروت وادي (رم)
المهول، هل ترانا نكتفي بقشرة مأدبا أو قلعة القطرانة؟ وهل ترانا نشبع من قشرة قرية جلعاد أو القسطل؟
حتى أصغر القرى ينبغي رؤيتها من داخل تربتها وصخورها ونوع الزرع الذي سينمو فيها، كم من قرية نائية منسية أنجبت عمالقة في
الطب والفلسفة والهندسة المعمارية وبيطرة الحيوان وعلم الجمال، وهذا ما ستفعله قرية الخربة السمراء وقلعة الربض.
نعم، أحببتُ البلاد التي عشت فيها ستة أعوام بلياليها، أحببت نبض تأريخها وهديل الحمام الزاجل بين بيوتها الجبلية، أحببت أم
الرصاص التي خلت من القتل والرصاص، أحببت صمت الجبال وهي تشهق أمامك بكبرياء عظيم نحو الخالق، أحببت مؤتة والسحب
البيض البراقة، وغيومها الساطعة اللاّمعة التي تتماهى مع الشمس، أحببت الظهيرة والمساء والفجر والصباح والليل في شعاب شارع
الأمير محمد والرابية وأبو نصير، عبرت شارع الملكة رانيا مئات المرات وأنا في طريقي إلى فخري صالح وخليل قنديل وتيسير
النجار وعمر أبو الهيجا وجهاد هديب في جريدة الدستور بين بيتي وبينها، وفي كل مرة أجلس فيها تحت سقف السرفيس أرى في هذا
الشارع شيئاً لم أره بالأمس، حتى كدت أقول مع نفسي: أما كان هذا البيت الذي هناك على الرابية محض مكان فارغ في صباح الخميس
الفائت؟
رأيت السمك يلبط في بحر لا وجود له، رأيت البرتقال والبطيخ في موسم لا ينبت فيه البطيخ ولا البرتقال، رأيت (حسبان) و(ذيبان)
ومشيت عشرات المرات بين ثنايا الساحة الهاشمية أبحث عن وجوه الأحباب والخلاّن، رأيتني صرت شاعراً من آن إلى آن، ربما
رفعت عن صدري حجارة القصة القصيرة ورحت أغنّي على جبل النزهة بين الشجر البّري والسنديان، هكذا جعلتني عمّان شاعراً
بالمكان.

الصفحات