من هناك، من تلك البيوت الناعمة المنمنة، من على سفح في جبل لا أعرف اسمه، من ضاحية النخيل، قلت لها كما قال نزار قباني: (صباحك سكر) يا عمّـان. صباح الورد والندى والخزامى. صباح الليلك والجوري وشقائق النعمان. أتهيّأ معك الآن ليوم آخر من أيام العمر.
أنت هنا
قراءة كتاب عن الأردن ومبدعيه
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 5
عدتُ من روما إلى بلدي بعد عام واحد، وأنا مذبوح من الوريد إلى الوريد شوقاً، بكيت كما تبكي النساء عند بوابة العامرية وخلف
خشخشة السنابل، وأمام قافلة السندس في الشارع القديم، قلت لنفسي: لن أسافر بعد اليوم مهما كان الأمر، وكان ذلك في عام 9 8 9 1
ما كنت أدري يومها ما تخبيء الأقدار لي، بقيت أمسك بجدران بيتي لئلا تطير بي رياح الرغبات في رحلة أخرى، أتشبث بالأبواب
والشبابيك، أمسك أولادي (عمر، وياسر، وناصر) لئلا تأخذني الرغبات الجامحة ثانية إلى صوفيا واستانبول ودمشق وبراغ وبارات
ميلانو ونساء فينسيا وخفايا أثينا، قلت لنفسي: كلا. لكن الدنيا غلبتني اغراءاتها على أمري، فرحلت اليها، أعني رحلت عن البيت الذي
لمّني والزقاق الذي احتواني وتعلّق بي، عن الشارع الذي يفتح مسامات اسمنته شرقاً وغرباً حتى أمرّ فيه، رحلت عن الحلاق الشاطر
الذي يفهم تضاريس شعري، عن القصاب الذي يعرف كم أشتهي ضلوع الخروف، عن المقهى التي ارتبط اسمها باسمي والتي لا يجلس
فيها الأحبة والأصدقاء إذا لم يجدوني على حصران كنباتها، رحلت عن ذكرياتي نحو عمّان التي استقبلتني بأمطارها وبردها وثلوجها
وأخذتني من بيت إلى بيت ومن عطر إلى سفح إلى جبل إلى صلاة أركع تحت السماء وأقول البلاد التي لملمت أوجاعي وأنا أطوف بين
اللويبدة، أدور فيها كأنني تاء مربوطة بها، وأمضي منها إلى جبل الحسين أشتري أول تليفون خلوي حتى أقول فيه وداعاً للبراق الذي
حملني إلى شجر الزيتون، ثم أنزوي خجلاً من عتاب الماضي، أجلس في مقهى السنترال مع مؤنس الرزاز، يسألني عن عصب في
الروح كاد يأخذني إلى أول مركبة أعود فيها إلى خيمتي في شارع حيفا، إلى اسكان غربي بغداد، وأنا أتذكر روما التي بكيت فيها
أوجاعي وحنيني، لكن عمّان أخبرتني انك في بيتك نفسه (البيت بيتك يا عبدالستار).. في الشارع الذي تبتغيه والأصدقاء الذين تبحث
عنهم، خرجت من المقهى نحو شارع السلط أدور مثل مخبول، أبحث عن نفسي، أقف عند مطعم هاشم أشرب الشاي مع الفلافل والخبز
الساخن، أتهيأ لرحلة لا أدري كم ستطول، تأخذني الدروب إلى تعاريج وخفايا ومنحدرات جبلية لم يعد جسدي يقوى على تسلقها، لكن
المحبة تعطيك مليارات الخلايا تضاف إلى لحمك حتى ترى رغدان وشارع بسمان وضاحية الرشيد، ثم تقول: غداً أرى دوار المدينة
الرياضية والعبدلي وخربة ياجوز وفي يوم الجمعة سأقطع زوايا الجبيهة ومنعطفات صويلح والجورة معاً، وربما أمضي خفيفاً إلى أهل
الكهف وأنام مثلهم ثلاثمائة سنة حتى أصحو في منازل (أبو علندة) وأحتسي السحلب وأنفث دخان سيجارتي تحت سماء تضمني مثل
طفل ضائع يتيم.
لم يعد من شبر في أرضها يعاتبني، فقد رأيت عمّان وما بعدها وما فيها وأنا أغني شعابها ودروبها التي تبدو كما لو أنها تتغير بين يوم
ويوم، فها أنا منذ شهور أعيش على سفح جبل في ضاحية النخيل، وفي كل صباح أرى ما لم أره البارحة، حتى خلت نفسي في حلم لا
يستقر على حال واحد، هو الحال نفسه الذي شعرت به وعشته تحت ظلال الجاردنز وتلاع العلي وفروع الشميساني، وحتى في
طبربور وعلى جبل التاج، وفي اليدودة أيضاً، في كل مرة يتغيّر فيه المشهد ينتابني احساس المسافر الذي يحطّ رحاله على أرض لم
يزرها من قبل، وفي ذلك تكمن أسرار عمّان، أسرار فيلادلفيا التي يتبدل ثوبها في الخريف حتى لتظنها سيدة أخرى غير التي جاءتك
في الشتاء والربيع.
-لكنك رأيت هذا كله، وعليك أن تتذكر روما وما عانيت فيها من حنين جارف إلى بغداد.