من هناك، من تلك البيوت الناعمة المنمنة، من على سفح في جبل لا أعرف اسمه، من ضاحية النخيل، قلت لها كما قال نزار قباني: (صباحك سكر) يا عمّـان. صباح الورد والندى والخزامى. صباح الليلك والجوري وشقائق النعمان. أتهيّأ معك الآن ليوم آخر من أيام العمر.
أنت هنا
قراءة كتاب عن الأردن ومبدعيه
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 7
من شرفات بيتي المعلّق في (أبو نصير) وليس من شرفة فيه طبعاً، رأيت نفسي أقفز السلالم نحو بيوت منمنمة مزخرفة بالقرميد،
ممرات معوجة ضيقة لا تمر فيها المركبات ولا يصل إليها بائع الغاز، تمنيت أن يكون بيتي هناك، حيث لا أسمع غير الهواء وهو
يسرح ويمرح خلف زجاج البيوت الصغيرة المنمنمة التي تغفو على آخر صرير للباب وهي تغلق على ليل يسبح في الهدوء الساحر،
ينساب كما الماء بين بيت وبيت، أنا فعلاً تمنيت رؤية السماء، زرقاء مرة وأعمق زرقة مرة ثانية، في حارة هادئة جداً لا تتسع ممراتها
لمرور أكثر من شخص واحد.
تمنيت بيتاً كهذا، يختفي بين بقية البيوت، يحتمي بها وينتمي إليها وينام بين ضلوعها كيما تكتب قصصك التي لا يلتفت إليها غير خمسة
وربما سبعة قراء من المشائين عكس المألوف.
من هناك، من بين تلك البيوت الناعمة المنمنمة، من على سفح في جبل لا أعرف اسمه، من ضاحية النخيل، قلت لها كما قال نزار
قباني: (صباحكِ سكّر) يا عمّان، صباح الورد والندى والخزامى، صباح الليلك والجوري وشقائق النعمان، أتهيأ معكِ الآن ليوم آخر من
أيام العمر، سأقرأ في كتابك يا عمّان، ربما أشتريه من كشك أبو علي وأجلس في مقهى بلاط الرشيد حتى أدرس التأريخ والجغرافيا
وأفهم تضاريس البلد الذي أنام وأصحو بين ثلوجه وصيفه، بين خريفه والربيع، ما يزال عندي من الوقت ما يكفي من اكتشاف سبيل
الحوريات وسقف السيل والمدرج الروماني الذي يشهد على الزمان أو يشهد الزمان عليه.
أما رأيت ذلك في أول يوم جئتَ فيه إلى عمّان؟ أجل رأيت هذا كله، والانسان أيضاً يرى نفسه في المرآة ملايين المرات طوال حياته
ولا يشبع من رؤية نفسه، أنا أتحسس تجاعيد الزمن في ملامح (قصر شبيب) والكنائس القديمة، أتحسس تجاعيد وجهي وأنا أقطع
المسافات في (عراق الأمير) مشياً من الماء حتى الينبوع وأقول ما شاء اللّه على برج الحمام وبيادر وادي السير، على تلاميذ المدارس
وهم يكتبون بقية الصفحات على سبورة (الغد).
ما شاء اللّه على التفاح والعنب، أقولها وأنا في طريقي إلى (مكاور) و(رحاب) و(المدور) أقف عند أطلال ذاك المكان المهجور وأرى
تراكم الصخور تحكي عن زخارف دمشقية وقناديل مطفأة، لكن الندّاهة تصرخ بي من وراء باب مكسور:
- ما لك وصروح الماضي؟ خذ ساقيك إلى الرابية وشارع الثقافة في ربوع الشميساني، أو تعال إلى مكة مول حتى ترى (براد بيت) وما
فعل في طروادة، ولماذا نسيت صويفية وخلدة؟
رأيتني على شفة الوجد أحيا وأنا أفتح الطريق إلى (ماركا) أو أهبط إلى طرقات لا أعرفها ولم أسبر أغوارها، لكنها تعرفني، يعطيك
العافية، مرة تراني في (حي نزال) أنزل عن صهوة ذاكرتي على شبه بينها وبين أسواق المشتل في بغداد، لا أدري ما هو أصل
الحكاية، لكن الحنين إلى أول منزل لا يأتي إليك إذا كان منزلك الثاني هو نفسه النسيم الذي شممته ذات يوم على شاطيء دجلة في
كرادة مريم، هو نفسه النسيم الذي ملأ الرئتين، مرة على جبل في شقلاوة ومرة على جبل في جرش، والناس ينطقون الكلام الذي تنطق
به، يعطيك العافية، كم هو لذيد أن تعطى إليك العافية، أنت الذي بحاجة إليها فعلاً، يعطيك العافية إذا ما بقيت بيننا، يعطيك العافية إذا ما
رجعت إلى الفرات ودجلة، يعطيك العافية وأنت في الطريق الصحراوي الرهيب ما بين بغداد وعمّان.
- نرجو أن تتذكرنا بخير.
**
هل تراني خرجتُ من الحلم حتى آخذ حقيبتي؟
عمّان 5 0 0 2