من هناك، من تلك البيوت الناعمة المنمنة، من على سفح في جبل لا أعرف اسمه، من ضاحية النخيل، قلت لها كما قال نزار قباني: (صباحك سكر) يا عمّـان. صباح الورد والندى والخزامى. صباح الليلك والجوري وشقائق النعمان. أتهيّأ معك الآن ليوم آخر من أيام العمر.
أنت هنا
قراءة كتاب عن الأردن ومبدعيه
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 9
ترى هل ينطق الحجر؟ أعني هذه الصخور المنحوتة على امتداد هذه الجغرافيا العجائبية؟ أجل، سمعنا لغة الصخور أكثر من مرة، في
البتراء كما في وادي رم، فهذا نسر يمد منقاره صوب فضاء اللّه وهو يهبط على انثلام كبير بين جبلين، والنسر نفسه لم يكن غير
صخرة على هيئة طائر عنيد، ها هو يهبط ثانية على انثلام مقطوع بين عالمين!
**
لا تدري في مكان كهذا - من وادي رم الشاسع - كيف انثنت الجبال تغازل بعضها، وكيف مرّت السنوات على أغرب قصص الحب بين
هذه الكائنات التي ترفض الكلام في حضرة البشر.. تعال واسمعها ليلاً، أعني بعد منتصف الليل، واخبرني ماذا يقول هذا المارد
الشاهق صوب السماء وماذا قالت تلك الصخرة الرابضة فوق مئات الصخور.. لغة من الجبروت المكتوم والكبرياء المغلّف بالكتمان.
ليس من الصعب أن تسمع الجبال وهي تضحك تحت زخات المطر، يمكنك التقاط صورة فوتوغرافية لهذا الجبل العنيد وهو يحتمي من
رذاذ البرد بقبعة أو مظلة من ألياف الجرانيت، يبتسم بفم مغلق ويرفض أن يعترف بذنوبه مهما طالت إقامته فوق نسيج الرمال، وحتى
لو أجبروه على الوقوف هكذا ملايين السنين، ذلك أن جبال (رم) من النوع الذي ينتمي إلى حزب البقاء ويؤمن أن الخلود هو نبراسه
الأول والوحيد.
**
رأيتُ - وما كنت حالماً أو واهماً - أبا الهول، ومن خلفه أسد بابل، ثم فيل عملاق، وزقورة من بقايا الخيال، وعلى بُعد أمتار لا تزيد
على مائة متر ثمة جماجم مبقورة، وشخص كبير الرأس ينظر إليك بريبة وتوجس، ثم ماكنة خياطة وثلاثة رجال بعنق واحد، وهنا جمل
مقطوع السيقان يجثو على بقايا قصر شامخ، وفم يصرخ مع أنف مجدوع، ربما سلال فاكهة مليئة بالصخور المضيئة، وطفلة تنظر
خلفها بهلع، يمكنك أن ترى ما تشاء، وما عليك غير أن تمشي عبر الصحراء بين تلك الجبال الراسيات في أعمق أعماق التربة حتى
قاعها البعيد عن السماء والقريب من الماء، حيث تمتد السلاسل نحوالمجهول من هذه الأرض التي ستبقى عذراء برغم مليارات البشر
الذين عاشوا وأنجبوا وشاخوا ورحلوا.. أرض عذراء حيث لم تكتشف جميع أسرارها، ولم يصل قرارها أو لغزها أحد، ولن يتمكن من
ذلك مليارات البشر الذين سيأتون بعدنا، مهما كان حجم التكنولوجيا والتطور والعبقرية!
**
أما الذهاب إلى البتراء، فهي رحلة إلى (المعقول) الذي لا يُصدق، ذلك المكان المحفور في الصخر، ربما عشرات الأعوام من أجل حفر
(ضريح الجرة) وأكثر من ذلك معبد (قدس الأقداس) الذي يسمونه (الخزنة) والطريق القصير الذي تقطعه على قدميك ما بين (قصر
البنت) وضريح الجندي الروماني هو طريق الفن في واحدة من معجزات البشرية، ناهيك عن (صرح الأفعى) أو (الدير) الذي لم أتمكن
من الوصول إليه، بسبب السلالم الحجرية التي يزيد عددها على ألف من درجات المرمر والصخر التي يمضي إليها السيّاح - حتى
العجائز منهم - كما تفعل الغزلان والأرانب.