ككاتبٍ ومؤلِّفٍ حديثٍ في مجالِ الكتابةِ باللغةِ العربيّةِ عانيتُ الأمرّيْنِ على مدى أكثرَ من نصفِ عقدٍ من السّنينِ. لا يزالُ هذا الأمرُ يسيراً!
أنت هنا
قراءة كتاب سراب في كأس التفاؤل
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 7
قصّةُ دارِ "الفخامةُ للنّشرِ"
بلغَ الكتابُ العربيُّ في السوقِ مرحلةَ الإشباعِ "السّلبيِّ" المحليِّ في فرعٍ واحدٍ من فروعِ الكتابةِ، الكتابُ الأدبيُّ باللغةِ العربيّةِ المحكيّةِ والفُصحى "الصمّاءِ". المقصودُ بالصمّاءِ هنا هيَ غيرُ المُشَكّلةِ وخاصّةً على الحروفِ الأخيرةِ من الكلماتِ أو المفرداتِ، القادرةِ على إظهارِ اللباقةِ والجمالِ والخواصِّ والمميّزاتِ المتميّزةِ الفريدةِ للّغةِ العربيّةِ الفصحى. تشكيلُ الأحرفِ وخاصّةً أواخرِ الكلماتِ في اللغةِ العربيّةِ ينقلُها من الصّيغةِ المحليّةِ الضيّقةِ إلى الشّكلِ العالَميِّ المفتوحِ لها والقابلِ للتّطويرِ واستيعابِ المعاني الجديدةِ. مثلاً لا حصراً فالكتابُ العربيُّ في كافّةِ فروعِ الطبِّ مفقودٌ. كيفَ لا يكونُ الأمرُ إلا كذلكَ والطبيبُ والباحثُ في الطبِّ العربيّانِ قد تخلّيا عن لغتهِما حتّى أمامَ المريضِ والزّائرِ للأخيرِ في سريرهِ بشكل هزليٍّ ومأساويٍّ خطيرٍ، في آنٍ معاً!؟. يتغنّى الطبيبُ العربيُّ أمامَ نفسهِ وأولادهِ وأهلِ عائلتهِ الكبيرةِ وعشيرتهِ وقبيلتهِ بركوبِ موجةِ الخواجاتِ في التعبيرِ اللغويِّ في الشئونِ والأمورِ الطبيّةِ تاركاً اللغةَ العربيّةَ تذوي وتخيبُ وتخوي أمامَ رياحِ الزّمنِ العاتيةِ والثّقافاتِ الغازيَةِ. ومِن الأطبّاءِ مَنْ إذا ما ووجِهَ بتلكَ الحقيقةِ المؤلمةِ، بل المخزيةِ، حتّى "يتمنطقَ" بمبرّرٍ مفادُهُ أنْ لا ضيرَ أنْ يتعلّمَ الإنسانُ من بحرِ اللغاتِ الأخرى ما يريدُهُ. يتعامى هؤلاءِ عن حقيقةِ كارثةٍ واقعةٍ لا محالةَ باللغةِ العربيّةِ تؤدّي إلى استثنائِها بشكلٍ تامٍّ من كافّةِ المراجعِ المختصّةِ بالعلومِ الطبيّةِ والإنتاجِ الطبيِّ الأصليِّ الأصيلِ باللغةِ العربيّةِ.
الأمرُ ينسحبُ على علومِ الصّيدلةِ وكافّةِ فروعِ الهندسةِ والعلومِ الطبيعيّةِ الأخرى. حتّى علمُ الرياضيّاتِ والجبرِ بالذّاتِ الذي بذلَ قدامى المسلمينَ جهوداً معتبَرةً من أجلِ ابتكارهِ وتطويرهِ يخلو من أيِّ رمزٍ يدلُّ على أنّ العربَ كانوا فيهِ هناكَ يوماً ما. فروعُ القانونِ والإدارةِ العامّةِ والخاصّةِ باللغةِ العربيّةِ أصابَها القحطُ والمَحْلُ وأصبحتْ رفوفُ الكتبِ العربيّةِ في المكتباتِ ومحلاتِ بيعِ الكتبِ مثلَ قاعٍ صفصفٍ تذروهُ رياحُ العولمةِ والغزوِ الثقافيِّ العاتيةِ. كتبُ التاريخِ والجغرافيا باللغةِ العربيةِ أصبحتْ بقدرةٍ قادرٍ لا تنطقُ بمادّةٍ فيها الحدُّ الأدنى من الدّسمِ الفكريِّ المُغذّي والممتعِ للقارئِ والباحثِ والدارسِ. نتيجةَ عقودٍ من الهجومِ الاستعماريِّ الثّقافيِّ الشّرسِ أصيبتْ العقليّةُ العربيّةُ المبدِعةُ باللغةِ العربيّةِ بِـ"الخَصْيِ الذهنيِّ والعُقمِ" المزمنيْنِ. شعبيّاً حدثَ انجرافٌ هائلٌ باتجاهِ تعلّمِ اللغاتِ الأجنبيّةِ فيهِ استُنْفِدَتْ بل استُنزِفتْ جهودٌ وطنيّةٌ وأموالٌ وممتلكاتٌ ضخمةٌ في سبيلِ نشرِ اللغاتِ والثّقافاتِ الأجنبيّةِ وتعزيزِها. عمليّاً تمَّ قطعُ رأسِ العالَمِ العربيِّ المُبدعِ والمُبتكرِ والمُنتِجِ والمفكِّرِ بالعربيّةِ من مستوى المرحلةِ الثّانويّةِ العامّةِ فما فوقَ. اليومَ يحلو لزعيمٍ أو مسئولٍ عربيٍّ رفيعِ المستوى الإداريِّ، لكنْ شبهِ أمّيٍّ لغويّاً وسياسيّاً، ويُشرِّفُهُ أنْ يقصَّ شريطاً فيهِ يَفتتحُ مؤسّسةً ثقافيّةً أو تعليميّةً تحملُ اسماً وعنواناً جدُّ عدائيّيْنِ لوجودِ وكيانِ وكينونةِ اللغةِ والثّقافةِ العربيّتيْنِ؛ يحدثُ ذلكَ بتباهٍ وتفاخرٍ علناً وعلى رؤوسِ الأشهادِ من وسائلِ الإعلامِ المحليّةِ والعالميّةِ. في تلكَ المؤسّساتِ "الموجّهةِ ثقافيّاً" يعملُ الغرباءُ والمحليّونَ يداً بيدٍ على اقتلاعِ اللغةِ العربيّةِ المجيدةِ من العقولِ الباطنيّةِ للنّاطقينَ الأصليّينَ بها.
أدّى حرمانُ العربيِّ من التفكيرِ والإنتاجِ والإبداعِ والابتكارِ بلغتهِ الأصلِ، العربيّةِ، إلى الحيلولةِ بينَ العربِ ومقوّماتِ التقنيةِ الحديثةِ وتِبعاً لذلكَ مقوّماتِ الاستقلالِ والحريّةِ. البنيةُ الأساسيّةُ أو التحتيّةُ للصناعةِ والتقنيةِ العربيّةِ واهيةٌ، عدا عن كونِها معدومةً؛ لا باللغةِ العربيّةِ ولا بالمستوردَةِ أو المفروضةِ من الخارجِ بالأحرى. المهندسونَ والتقنيّونَ العربُ لا يقدرونَ على صناعةِ أعوادِ ثقابٍ لإيقادِ المواقدِ أو أفرانِ الغازِ، ولا يقدرونَ على إنتاجِ حتّى لُفافاتِ قطنٍ صغيرةٍ معقّمةٍ طبيّاً يمسحُ العربيُّ بها تجويفَ أذنهِ الوسطى بعدَ استحمامهِ. العربيُّ الحديثُ في وادٍ وكلُّ طرقِ ووسائلِ إنتاجِ أدواتِ وآلاتِ وموادِّ التقنيةِ القديمةِ والحديثةِ والمتجدِّدةِ في وادٍ آخرَ بعيدٍ. هذا في الوقتِ الذي فيهِ العربيُّ قادرٌ على شراءِ أو استيرادِ سيّارةٍ فخمةٍ أو طائرةٍ حربيّةٍ أو مدنيّةٍ متقدّمةٍ مجهّزةٍ بآخرِ ما توصّلتْ إليهِ التقنيةُ الحديثةُ. في استوديوهاتِ وسائلِ الإعلامِ العربيّةِ المرئيّةِ لا يخجلُ المذيعُ (أو المذيعةُ) العربيُّ (أو العربيّةُ) على ذقنهِ (أو ذقنِها) من الظّهورِ أمامَ المشاهدينَ العربِ وفوقَ رأسهِ (أو رأسِها) وحولَهُ (أو حولَها) معدّاتُ تصويرٍ وبثٍّ ومراقبةٍ وضبطٍ ليسَ للعربِ فيها حتّى ولو بمثقالِ ذرّةٍ خيراً. أكبرُ ضحيّةٍ لظهورِ الدّولِ الصناعيّةِ الأربعِ، أو الخمسِ أو الستِّ أو السّبعِ، العملاقةِ هو العالَمُ العربيُّ الذي باتت كلُّ مواردهِ الطبيعيّةِ والبشريّةِ الفكريّةِ والإستراتيجيّةِ الضخمةِ تُباعُ في سوقِ النّخاسةِ الدوليّةِ. قادَ الزّعماءُ العربُ شعوبَهم بشكلٍ شديدِ التخلّفِ نحوَ بيتِ طاعةِ التبعيّةِ المقيتةِ للخواجاتِ. حتّى تحافظَ تلكَ الزّعاماتُ على مقاعدِها والشّعوبُ على قوتِ يومِها تضطرُّ الآنَ لبيعِ المقدّراتِ والأوطانِ والمؤسّساتِ والتخلّي عن المقدّساتِ والمبادئِ والثّوابتِ بشكلٍ لا يقبلُهُ أيُّ ذي حِجرٍ.