ككاتبٍ ومؤلِّفٍ حديثٍ في مجالِ الكتابةِ باللغةِ العربيّةِ عانيتُ الأمرّيْنِ على مدى أكثرَ من نصفِ عقدٍ من السّنينِ. لا يزالُ هذا الأمرُ يسيراً!
أنت هنا
قراءة كتاب سراب في كأس التفاؤل
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 10
مضت أربعةُ أشهرٍ منذُ إرسالِ المخطوطاتِ ولم يأتِني ردٌّ يشرحُ لِيَ ويطلبُ منّيَ ماذا أفعلُ؛ أأُصحّحُ في النّصوصِ المكتوبةِ، أأُضيفُ شيئاً إليها، أأَحذفُ عباراتٍ منها، أو أيعتذرونَ لِيَ عن النشرِ في دارِ "الفخامةُ للنّشرِ" الغرّاءِ!؟. بعدَ أربعةِ أشهرٍ من الانتظارِ والترقّبِ والتحسّبِ سألتُهم على الهاتفِ، ولعدّةِ مرّاتٍ، إذا ما كان من الضروريِّ حضورِيَ إلى دارِ "الفخامةُ للنّشرِ" والتشرّفِ بتناولِ فنجانٍ من القهوةِ أو كأسٍ من الشايِ بمعيّتِهم المهيبةِ!؟، هذا ليسَ مزاحاً أو تهكّماً أو "تطنّزاً" عليهم!. كانَ الجوابُ بشكلٍ ضمنيٍّ وأحياناً مباشرٍ، لا لا لا. في كلِّ مرّةٍ أعودُ إلى نفسِيَ وأصحابِيَ وزملائِيَ للحصولِ على تفسيرٍ مقنعٍ لما يجري. الأصدقاءُ ينصحوني بالتريّثِ وفي نظرِهم كلّما طالت مدّةُ الانتظارِ كلّما اقتربَ موعدُ الحسمِ النهائيِّ أو ما يُعرَفُ بالفرَجِ. الحسمُ النهائيُّ والحالُ هذهِ باتجاهِ النشرِ إذ أنَّ طولَ الانتظارِ سيشكّلُ عاملَ ضغطٍ نفسيّاً وذوقيّاً وأخلاقيّاً على الطرفِ الآخرِ؛ لكنْ حقيقةً لم يكنْ هنالكَ وجودٌ لكلِّ ما ذُكِرَ أعلاهُ من عواملَ. على العكسِ من ذلكَ كانَ هنالكَ فراغٌ شبهُ مطلقٍ في الحياءِ والأخلاقِ والذوقِ والإحساسِ العامِّ النّبيلِ.
بعدَ محاولاتٍ يائسةٍ عديدةٍ تمَّ تقديمي إلى ركنٍ مهمٍّ من أركانِ النشرِ في الدارِ، مديرُ عامٌّ وهو الذي سيساعدُ! بشكلٍ حاسمٍ في تقريرِ مصيرِ النشرِ. السيدُ "عبدُالصبّارِ النّطعيُّ" لهُ نبرةُ صوتٍ قويّةٌ يَعدُ بدورهِ بالنظرِ جديّاً في النشرِ، وبأقصى سرعةٍ ممكنةٍ لديه!. كانَ الصوتُ والوعدُ يبدوانِ حقيقيّيْنِ لدرجةِ أنّني في تلكَ الليلةِ لم أستطعْ النّومَ بسببِ حالةِ التهيّجِ العصبيِّ الذي أصابَ فكرِيَ وأعصابِيَ ودغدغَ خيالِيَ وأحلامِيَ. بعضُ الرواياتِ أو المخطوطاتِ صرفتُ عليها أكثرَ من سنتيْنِ من العمرِ والعملِ خاصّةً في الصّباحِ الباكرِ حيثُ نشاطُ الدّماغِ في باكورةِ الذّروةِ الإبداعيّةِ وذلكَ ما قد يرشّحُها لنيلِ جوائزَ، قلتُ في نفسِيَ. أقسمتُ لنفسِيَ إنْ يتمَّ ذلكَ التّكريمُ الجائزةُ فلن أتردّدَ في تقاسمِ الجائزةِ "الخيالِ!" مع السيّدِ "النّطعيِّ" نفسهِ. في تلكَ الليلةِ والأسابيعِ القليلةِ التي تلت كانَ شبحُ السيّدِ "النّطعيِّ" مثلَ ملاكٍ يزورني وينبّهُني من نومِيَ أحياناً قائلاً "ها أنا النّطعيُّ فارسُ أحلامِكَ يا هذا في الطباعةِ والنشرِ والتوزيعِ، كلُّ القضايا باتت محلولةً ولا داعيَ للقلقِ على الإطلاقِ!".
طالَ الزمنُ مرّةً أخرى أسابيعَ طويلةً إضافيّةً وأجريتُ مكالمةً هاتفيّةً إلى هاتفِ السيّدِ "النّطعيِّ" المحمولِ وفوجئتُ بأنّهُ لم يقمْ بعملِ أيِّ شيءٍ على أرضِ الواقعِ باتجاهِ الطباعةِ والنشرِ. زعمَ السيّدُ "النّطعيُّ" ومعهُ الشخصيّةُ الأولى في الاتصالِ السيّدُ "الكاسي" أنَّ المخطوطاتِ بأيدي لجانِ القراءةِ والتحكيمِ والقرارِ النهائيِّ. هؤلاءِ أعضاءُ اللجانِ بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الوقتِ للتأكّدِ من أنَّ ليسَ هنالكَ من كلمةٍ أو جملةٍ أو عبارةٍ أو فكرةٍ قد تنالُ من شخصٍ خاصّةً إذا ما كانَ الأخيرُ في موقعٍ معتبَرٍ في عالَمِ الإدارةِ والفكرِ والسياسةِ والفكرولوجيّةِ العربيةِ والدوليّةِ. السؤالُ المتكرّرُ في بدايةِ كلِّ مرّةٍ في الاتّصالِ هو "ما اسمُكً وماذا تودُّ عملَهُ!؟". في غضونِ ذلكَ ذهبَ السيّدُ "الكاسي" في إجازةٍ قصيرةٍ، أو هكذا قيلَ، وبقي التعاملُ فقط مع السيّدِ "النّطعيِّ" ممكناً. اختيرَ السيّدُ "النّطعيُّ" لتلكَ المهمّةِ كما يبدو لأنَّ لديهِ طريقةً دبلوماسيّةً اجتماعيّةً لطيفةً لكنْ مضنيةً للتخلّصِ من الآخرينَ؛ لاحتواءِ ردِّ فعلِ الكاتبِ أو المؤلِّفِ خاصّةً إذا ما كانت لدى الأخيرِ قدرةٌ على إبداءِ النقدِ اللاذعِ المؤثّرِ أو الثّورةِ أحياناً. أكثرَ من ذلكَ فإنَّ التمويلَ لاستمرارِ دارِ "الفخامةُ للنّشرِ" في العملِ والبقاءِ قد يعتمدُ على مقالةٍ ناقدةٍ لتلكَ التصرّفاتِ المقيتةِ قد تصلُ لهذا المسئولِ المموّلِ أو ذاكَ، عن طريقِ وسيلةٍ إعلاميّةٍ محليّةٍ.
في خضمِّ الظنونِ والخيالِ المشئومِ كانَ لا بدَّ من القيامِ بزيارةٍ ميدانيّةٍ لدارِ النشرِ والاطّلاعِ عن كثبٍ عمّا يجري هناكَ. شددتُ الرحالَ مع صديقٍ لِيَ وهممت بالذهابِ إلى تلكَ المدينةِ التي تأوي دارَ "الفخامةُ للنّشرِ". بعدَ بحثٍ في جوانبِ البنايةِ التي تضمُّ مكاتبَ دارِ "الفخامةُ للنّشرِ" الرئيسيّةَ وصلنا الاثنانِ إلى الشقّةِ التي تُعتبرُ مركزَ الإدارةِ الرئيسيِّ. في المخيّلةِ السّابقةِ لتلكَ الزّيارةِ كانت هنالكَ مكاتبُ وقاعةٌ كبيرةٌ ومكتبةٌ ورفوفٌ تحوي منشوراتِ دارِ "الفخامةُ للنّشرِ" تلكَ، وصاحباتِها وأصحابِها من دورِ النّشرِ الأخرى. كانَ هنالكَ تخيّلٌ سابقٌ بنشاطٍ فكريٍّ يشابهُ الدخولَ إلى خليّةِ نحلٍ أو نملٍ فيها الكتّابُ والشعراءُ والأدباءُ والعلماءُ والمفكّرونَ يقومونَ بأنشطةٍ تذكّرُ بسوقِ عكاظٍ في الحجازِ أو شارعِ المتنبي في بغدادَ أو "دوّارِ الزمنِ" في نيويوركِ. لكنَّ المكانَ خلا من أيٍّ من هؤلاءِ ولم يكنْ في المكانِ إلا السيّدُ "الكاسي" ومراسلٌ خادمٌ، يعملُ الأخيرُ في المكتبِ لتحضيرِ الشايِ والقهوةِ والمشروباتِ الخفيفةِ والماءِ والشطائرِ ومآربَ أخرى. في واقعِ الأمرِ ودونَ مبالغةٍ في القولِ بدا المراسلُ الخادمُ أكثرَ نشاطاً اجتماعيّاً وفكريّاً وثقافيّاً حضوريّاً من السيّدِ "الكاسي" نفسهِ.