رواية "مدائن الأرجوان" للكاتب السوري نبيل سليمان، الصادرة عن دار الحوار للنشر والتوزيع عام 2013، نقرأ من أجوائها:
في الشرفة لبث واصف عمران يتفرج بحياد على باص الحضانة وهو يبتعد بثريا: أليست ابنتك أيها الوغد؟
أنت هنا
قراءة كتاب مدائن الأرجوان
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
مدائن الأرجوان
الصفحة رقم: 2
عبر ذلك كان واصف قد بات لا يطاق: صامت دوماً وغاضب دوماً. وكانت رمزية قد أدمنت أن تعيّره بالخوف وأن تلومه على الانزواء، إذ ما عاد يغادر غرفته إلا في الصباح، ولكن ليس ليتسلق إلى ذروة التلة ويعانق البحر، بل ليعدّ الخطى من رأس شارع المالكي، كما يفعل الآن، ثم ينسى العدّ ما إن يحاذي الباب المتهالك المقبب الذي يخفي المدرسة الأرمنية. ومن أمام الفرن الذي لا زال يخبز على الحطب، يعود واصف إلى العدّ حتى يبلغ الكنيسة، فيتذكر ـ ربما كان كل صباح يتذكر ـ أنه لاقى ورمزية رأس السنة فيها، وكانا لا يزالان عاشقين، وقد صادفا عبد الرحمن عند باب الكنيسة، فتبادلوا العناق والقبلات والصخب، وبارك عبد الرحمن اختيار العاشقين المسلمين للكنيسة مطرحاً للقاء، وسأل رمزية:
ـ كنيسة من هذه يا شاطرة؟
فأسرعت باعتداد:
ـ كنيسة اللاتين يا دكتور.
ـ غلطانة يا شاطرة.
قال عبد الرحمن وهو يدعك أذنها عقاباً، ثم خاطب واصف:
ـ وانت يا شاطر: كنيسة من هذه؟
ـ كنيسة مارنيقولاوس يا دكتور.
ـ عفارم يا شاطر.
قال عبد الرحمن، وكافأ واصف بدعك أذنه أيضاً، ثم اختفى في زحام العيد، وترك عيني واصف تبحثان عنه كما تفعلان الآن وقد بلغ سينما الأهرام. ولما تجدد يأسه من العثور على عبد الرحمن حياً أو ميتاً، انتقل إلى رصيف سينما الكندي، وأحسّ بالحصار بين ما تعلن عنه هذه السينما وتلك السينما، فاندفع قُدُماً إلى أن أسلمه شارع المالكي إلى الحديقة: لماذا هي قاحلة؟
الكورنيش أيضاَ بات قاحلاً صباح مساء، ليس فقط لأن المدينة لم تعد آمنة ليل نهار، بل لأن مذبحة توسيع المرفأ نأت بالبحر عن الكورنيش. من رشّو إلى اللاكابان ومن فينيسيا إلى المنتزه، كل ذلك صار من الماضي، ولم ينجُ من المذبحة إلا العصافيري. ما عادت أسراب الصبايا تملأ الكورنيش عصر كل يوم، صيف شتاء. ولم يكن الكورنيش ليعدم من يهربون أو يهربن من المدارس والجامعة الناشئة، ليتسكعوا هنا كما يتسكع واصف الآن حتى تستوقفه واحدة من السيارات التي تكاثرت في المدينة إثر اغتيال الدكتور عبد الرحمن هلال، وبات واصف يحفظها عن ظهر قلب: صالون لاندروفر، أي دورية، فما الفرق إن كانت للأمن العسكري أو الأمن السياسي أو أمن الدولة أو سواه، ما دام واصف سيغادر الكورنيش عجلان، وسيتوه من زقاق إلى زقاق، متحاشياً الشوارع، إلى أن يكون عليه أن يقطع آخرها قبل أن يرى نفسه قبالة مقبرة الفاروس، أي تحت الشرفة التي كانت رمزية تطل منها على عشاقها: كيف ظفرت بها وحدك أيها الوغد؟
* * *
بوغت العجوز شوقي المعروف بالأثرم ـ أي والد رمزية ـ بواصف الذي ندر أن حضر إلى بيت حميه، وبخاصة بعد موت والدة رمزية. وعلى العكس مما توقع واصف، لم يشك العجوز من الوحدة أو من عقوق الأبناء والبنات، وعلى رأسهم رمزية. ولعل ذلك ما جعل واصف يسترخي في الصالون المفتوح على المقبرة. وعلى الرغم من أنه أغمض عينيه، فقد كان قادراً على أن يرى إشارات العجوز تتنقل فوق شواهد القبور، بينما صوته يتأسّى، متابعاً حديثاً لا أحد يدري متى بدأ ولا متى انقطع:
ـ ما بقي من دير الفاروس حجر على حجر. هذا صحيح. لكن الناس عمّروا الدير بعد التحرير. عسكر صلاح الدين الأيوبي أيضاً عمّروه.